الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبقة الثانية والأربعون
سنة إحدى عشر وأربعمائة
[فَقْد الحاكم بأمر الله]
في شوّال فُقِد الحاكم صاحب مصر، وكان يواصل الركوب وتتصدَّى لَهُ العامَّة فيقف عليهم ويسمع منهم. وكان الخلْق في ضَنْكٍ من العَيْش معه. وكانوا يدسُّون إليه الرُّقاع المختومة بالدُّعاء عَليْهِ والسّبّ لَهُ ولأسْلافه، حتى أنهم عملوا تمثال امرَأَة مِن كاغِدٍ بِخُفّ وإزار ثمّ نصبوها لَهُ، وفي يدها قصّة. فأمر بأخْذها مِن يدها، ففتحها فرأى فيها العظائم، فقال: أنظروا مِن هذه. فإذا هي تمثال مصنوع. فتقدَّم بطلب الأمراء والعُرَفاء فحضروا، فأمرهم بالمصير إلى مصر وضرْبها بالنّار ونَهْبها وقتْل أهلها [1] . فتوجّهوا لذلك فقاتل المصريّون عَنْ أنفسهم بحسب ما أمكنهم. ولحق النَّهْبُ والحريق الأطراف والنّواحي الّتي لم يكن لأهلها قوّة على امتناع ولا قدرة عَلَى دفاع.
واستمرَّت الحرب بين العبيد والرّعيّة ثلاثة أيام، وهو يركب ويشاهد النّار، ويسمع الصّياح. فيسأل عَنْ ذَلِكَ، فيقال لَهُ: العبيد يحرقون مصر. فيتوجَّعُ ويقول: مِن أمرهم بهذا؟ لعنهم الله.
[1] روى ابن العبري هذا الخبر على هذا النحو:
قلتُ: بل لعنةُ الله عَلَى الكافر.
فلمّا كَانَ في اليوم الثّالث اجتمع الأشراف والشّيوخ إلى الجامع ورفعوا المصاحف، وعجّ الخَلْقُ بالبكاء والاستغاثة باللَّه. فرحمهم الأتراك وتقاطروا إليهم وقاتلوا معهم. وأرسلوا إلى الحاكم يقولون لَهُ: نَحْنُ عبيدك ومماليكك، وهذه النّارُ في بلدك وفيه حُرَمُنا وأولادنا، وما عِلمْنا أنّ أهله جَنَوْا جنايةً تقتضي هذا. فإنْ كَانَ باطنٌ لا نعرفه عرّفْنا بِهِ، وانتظر حتّى نُخرج عيالنا وأموالنا، وإن كَانَ ما عَليْهِ هَؤلَاءِ العبيد مخالفًا لرايك أَطْلِقْنا في معاملتهم بما نُعامل بِهِ المفسدين.
فأجابهم: إنّي ما أردتُ ذَلِكَ ولا أذِنْت فيه، وقد أذِنْت لكم في الإيقاع بهم.
وأرسَل العبيد سرّا بأن كونوا عَلَى أمركم، وقوّاهم بالسّلاح.
فاقتتلوا، وعاودوا الرّسالة: إنّا قد عرفنا غرضك، وإنّه إهلاكُ البلد.
ولوّحوا بأنّهم يقصدون القاهرة. فلمّا رآهم مستظهرين، ركب حِمارهُ ووقفَ بين الفريقين، وأومأ إلى العبيد بالانصراف. وسكنت الفتنة.
وكان قدْر ما أُحرِق مِن مصر ثُلثها، ونُهب نصفُها. وتَتَبَّع المصريون مِن أسر الزَّوجات والبنات، فاشتروهنَّ مِن العبيد بعد أن زَنَوْا بهنَّ، حتّى قَتَل جماعةٌ أنفسهنَّ مِن العار.
ثمّ زاد ظُلم الحاكم، وعَنَّ لَهُ أن يَدَّعي الرُّبوبيّة، كما فعل فرعون، فصار قومٌ مِن الْجُهّال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد [1] ، يا مُحيي يا مُميت.
وكان قد أسلم جماعةٌ مِن اليهود، فكانوا يقولون: إنّا نريد أن نعاود ديننا، فيأذن لهم [2] .
[1] في المنتظم: «يا واحدنا يا أحدنا» ، وانظر: تاريخ الزمان لابن العبري- ص 81.
[2]
المؤلّف- رحمه الله ينقل هذا الخبر عن «المنتظم» لابن الجوزي 7/ 297، 298 باختلاف بعض الألفاظ، وانظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 9/ 315، وتاريخ الزمان لابن العبري 79، وسير أعلام النبلاء 15/ 177 وفيه:«ولما أمر بحريق مصر واستباحها، بعث خادمه ليشاهد الحال، فلما رجع قال: كيف رأيت؟ قال: لو استباحها طاغية الروم ما زاد على ما رأيت، فضرب عنقه» ، والنجوم الزاهرة 4/ 180- 183، وبدائع الزهور ج 1 ق 1/ 208، 209.
وأوحش أختَه بمراسلاتٍ قبيحة، وأنّها ترتكب الزّنا. فراسلت ابن دوّاس
[ () ] وقد أورد هذا الخبر بتفصيل وإسهاب مؤرّخ نصراني معاصر للحاكم بأمر الله هو «يحيى بن سعيد الأنطاكي» المتوفى سنة 458 هـ. وكان بطريركا على الإسكندرية، وذلك في كتابه «تاريخ الأنطاكي» المعروف بصلة تاريخ أوتيخا، وقد ذكره في حوادث سنة 410 هـ. فقال:
وتناسخوا أيضا كتابا ذكروا أنه من الحاكم، تاريخه العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشر وأربعمائة، يتضمّن تفنيدهم على تخلّفهم عن تسليم الحق إلى أهله، وتركهم التشاغل بعيوب نفوسهم، واعتراضهم عليه فيما يفعله، ويشير عليهم بالمبادرة إلى الإيمان في أوانه وقبل فواته، ويوبّخهم على مخالفتهم إيّاه فيما قصد بهم إليه ممّا يعود عليهم بالقرب إلى باريهم، ومجاهرتهم له بما أتوه من الخطايا وتظاهروا به من البدع، ويتواعدهم بأن كل عقوبة سيحلّها بهم إن لم يزروا الشّر ويعملون الخير ويعمدوا عليه، ويسلّموا إلى إمام دهرهم، ويولجوا إليه أمرهم، ويذكّرهم بما تقدّم من إنذاره لهم، وتخويفه إيّاهم على مباينته، ويعد من قبل أوامره واحتذى مرضاته بالإحسان إليهم والإبقاء عليهم، ويحذّر من صبر على الأفعال المنكرة بخلاء ديارهم، وتعفية آثارهم، وسبي نساءهم (كذا) وأولادهم، ونهب أموالهم، وأنهم حينئذ يطلبون ناصرا فلا ينصرون، ويقسم على من وقع كتابه بيده أن يقرأه على أهله وجيرانه، ويجعلهم على علم من مضمونه.
وتفاوض المسلمون بينهم أنّ قصده سياقتهم إلى ما دعا إليه الدرزي، وأنّ حنقه عليهم إنّما هو لنفورهم منه. وأكثروا الكلام في ذلك، وعملوا أشعارا يكفّرونه فيها، يشيرون بها إليه، وترنّموا بأغاني تتضمّن شتيمة له وألفاظا قبيحة يشيرون بها إليه، وجميعها تتّصل به في وقتها، فازداد غضبا عليهم.
وتقدّم في ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة بأن يفرّق على العبيد السودان من العسكرية سلاح، وأوعز إليهم بالنزول إلى مصر، وأن يتعمّدوا حرقها وسبي حريم أهلها وأولادهم، ونهب أموالهم، فبدءوا في طرح النار في طرف مصر في الموضع المعروف بالتّبّانين، وتركوا أيديهم في النهب، وامتدّوا فيه إلى أن أتوا على ما في القياسر التي يباع فيها البزّ، وعلى كثير من الحوانيت والمساكن، وأسروا خلقا من النسوان وافترسوهنّ، وتهارب جماعة منهم إلى الجامع تحرّما به فلم يحمهم، ونهبوا مواضع كثيرة من مصر، وأحرقت النار شطرا كبيرا من البلد، ولم يتجاسر المصريّون على إطفائها خوفا من أن يجري عليهم ما هو أعظم وأشدّ. وانتهى إلى الحاكم عظم الحادثة بمصر من الحريق والنهب والأسر، فإنّه لم يؤمن تفاقمه وخروجه إلى ما يصعب تلافيه واستدراكه، فتقدّم إلى غادي الخادم الصقلبي بالنزول إلى مصر في جماعة من الجند ليسكّن الفتنة، فنزل وشاهد أمرا فظيعا وحالة قبيحة، فقتل بعضا من العبيد ومن أهل الشرّ لتوقع الهيبة فيهم، وفرّق جمعهم، وعاد إلى الحاكم وهو حنق ممّا شاهد، وشرح له قبح النازلة وعظم الحادثة، وقال له في جملة كلامه: لو أنّ باسيل ملك الروم دخل إلى مصر لما استجاز أن يفعل بها مثل هذا، فنقم عليه الحاكم وقتله، فاستغاث المصريّون إليه في العفو عنهم والتقدّم بإطفاء النار لئلا تهلكهم، فأذن بذلك بعد أن تلف من العقارات والرحالات ما يعظم قدره.
الأمير، وكان متخوفًا مِن الحاكم. ثمّ جاءت إِليْهِ فقّبل الأرض بين يديها، فقالت: قد جئتك في أمرٍ أحرْسُ نفسي ونفسك.
قَالَ: أَنَا خادمك.
فقالت: أنت ونحن عَلَى خطرٍ عظيم مِن هذا. وقد أنضاف إلى ذَلِكَ ما تظاهر بِهِ وهتك الناموس الّذي أقامه آباؤنا، وزاد جنونه وحَمَل نفسه عَلَى ما لا يصبر المسلمون عَلَى مثله. وأنا خائفة أن يثور النّاس علينا فيقتلوه ويقتلونا، فتنقضي هذه الدّولة أقبح انقضاء.
قَالَ: صدقت فِي الرأي.
قالت: تحلف لي وأحلف لك عَلَى الكتْمان.
فتحالفا عَلَى: قتله وإقامة ولده مكانه، وتكون أنت مدبر دولته.
قَالَتْ: فاختْر لي عَبْدين تثق بهما عَلَى سَرَّك وتعتمد عليهما.
فأحضر عبدين موصوفين بالأمانه والشهامة. فحلَّفَتْهما ووهبتهما ألف دينار، ووقَّعت لهما بإقطاع، وقالت: اصعدوا إلى الجبل فاكمنا لَهُ، فإنّ غدا يصعد الحاكم إليه وليس معه إلا الرّكابيّ وصبيّ، وينفردُ بنفسه. فإذا جاء فاقتلاه مَعَ الصّبيّ. وأعطتهما سكّينتين مغربيّتين [1] .
وكان الحاكم ينظر في النّجوم. فنظر مولده، وكان قد حكِم عَليْهِ بَقَطْعٍ [2]
[ () ] وقال بعض الناس: إن السبب في ما أمر به من حريق مصر ونهبها أن أكثر تلك الأشعار والقصائد المنسوبة إليه أو كلّها هم انحلوه إيّاها وعملوها على لسانه، وكذلك الكتاب المكتسب عنه، وأنه قصده أن يحقق فيهم ما تفاءلوا به على أنفسهم، وبعثه عليه أيضا ذكرهم له في أشعارهم وأغانيهم وتشيرهم (كذا) له وتلقيبهم إيّاه.
وقال بعضهم: بل هو لحنقه عليهم لتخلّفهم عن المسارعة إلى الدخول في دعوة الدرزيّ والهادي.
ولعلّه كان للحالتين جميعا.
وقرئ عليهم بعد ما جرى من الحريق والنهب سجلّ بالغمّ مما نالهم، وأنه لم يكن بأمره ولا جرى باختياره.
(تاريخ الأنطاكي- بتحقيقنا- ص 345- 348- طبعة جرّوس برسّ، طرابلس 1990) .
[1]
المنتظم 7/ 298.
[2]
أي حادث خطير، أو أمر جلل إذا تخطّاه وقطعه سلم. ويقال بالعامّيّة: قطوع. وانظر: اتعاظ الحنفا للمقريزي- ج 2/ 115 بتحقيق الدكتور محمد حلمي محمد أحمد حيث يقول في
في هذا الوقت، وأنّه متى تجاوزه عاش نّيفًا وثمانين سنة.
فأحضر أُمَّهَ وقال: عليّ في هذه الليلة قطعٌ. وكأنّي بكِ قد هتِكْت وهلكتِ مَعَ أختي، فتسلّمي هذا المفتاح، فلي في هذه الخزانة صناديق تشتمل على ثلاثمائة ألف دينار، فحوليها إلى قصرك لتكون ذخيرةً لك.
فبكت وقالت: إذا كنتَ تتصوَّر هذا فَدَعْ ركوبك اللّيلة.
فقال: أفعلُ.
وكان في رَسْمه أنّه يطوف كلّ ليلةٍ حول القصر في ألف رَجُل، ففعل ذَلِكَ ثمّ نام. فانتبه الثُّلث الأخير وقال: إنّ لم أركب وأتفرَّج خرجت نفسي.
فركب وصعِد الجبَل ومعه صبيّ. فخرج العبدان فصرَعاه وقطعا يديه وشقّا جوفَه وحملاه في كِساء إلى ابن دَوّاس، وقتلا الصَّبيّ. فحمله ابن دَوّاس إلى أخته فدفنته في مجلسٍ لها سرّا، وأحضرت الوزير واستكتمته واستحلفتْه عَلَى الطّاعة [1] ، وأن يكاتب وليَّ العهد عَبْد الرّحيم بْن إلياس العُبيديّ ليُبادر، وكان بدمشق. وأنفذت إلى أميرٍ يقيم في الطّريق فإذا أوصل وليّ العهد قبض عَليْهِ وعدلَ بِهِ إلى تِنّيس [2] .
وكتبت إلى عامل تِنّيس عَنْ الحاكم أن يحمل إِليْهِ ما قد تحصّل عنده،
[ () ] الحاشية رقم (3) : «لم أهتد إلى ما يقنع في تفسير معنى «القطع» المذكور هنا» . ثم أورد مثيلا له في: النجوم الزاهرة 4/ 70، 71 وذلك عند قدوم المعزّ إلى مصر- وكان مغرى بالنجوم- فنظر في طالعة ومولده فحكم له «بقطع» فيه، فاستشار منجّمه فيما يزيله عنه، فأشار عليه أن يعمل سردابا تحت الأرض ويتوارى فيه إلى حين جواز الوقت، ففعل ذلك.
[1]
حتى هنا في: المنتظم 7/ 299.
[2]
وذكر هذا الخبر أيضا مؤرّخ معاصر آخر هو «القضاعي» في تاريخه، ونقله عنه «ابن تغري بردي» في:(النجوم الزاهرة 4/ 193، 194) ولكنّه جعل موت وليّ العهد بالسّكّين انتحارا.
وانظر: ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي 69، 70.