الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم المظاهرات
مداخلة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد وليًا مرشدًا.
أما بعد:
فضيلة الشيخ! عندي أسئلة مهمة جدًا وهي تخص بعض الشباب، فهذه الأسئلة وأستسمح من أخوتي الكرام لأنها مهمة جدًا للأمة أن ألقيها على فضيلتكم وهي أولًا: ما حكم هذه المظاهرات، مثلًا يتجمع كثير من الشباب أو الشابات ..
الشيخ: والشابات أيضًا؟
مداخلة: نعم، قد حدث هذا.
الشيخ: ما شاء الله!
مداخلة: يخرجون إلى الشوارع مستنكرين لبعض الأفعال التي يفعلها الطواغيت، أو بعض ما يأمر به هؤلاء الطواغيت أو ما يطالب به غيرهم من الأحزاب الأخرى السياسية المعارضة، فما حكم هذا العمل في شرع الله؟
الشيخ: أقول وبالله التوفيق: الجواب عن هذا السؤال يدخل في قاعدة ألا
وهي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أو من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الشك مني الآن - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» .
الشاهد من هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ومن تشبه بقوم فهو منهم» فتشبه المسلم بالكافر لا يجوز في الإسلام وهذا التشبه له مراتب من حيث الحكم ابتداءً من التحريم وأنت نازل إلى الكراهة، وقد فصل القول في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم المسمى بـ:«اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» ، تفصيلًا لا نجده عند غيره رحمه الله.
وأريد أن أنبه إلى شيء آخر ينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا له وألا يظنوا أن التشبيه هو فقط النهي عنه في الشرع، فهناك شيء آخر أدق منه ألا وهو: مخالفة الكفار، التشبه بالكفار أن تفعل فعلهم، أما مخالفة الكفار فأن تتقصد مخالفتهم فيما يفعلونه حتى لو كان هذا الفعل الصادر منهم فعلًا لا يملكون التصرف فيه بخلاف ما فرض عليهم فرضًا كونيًا، كمثل الشيب الذي هو سنة كونية لا يختلف فيه المسلم عن الكافر؛ لأنه ليس في طوعهم ولا في إرادتهم وإنما هي سنة الله تبارك وتعالى في البشر ولن تجد لسنة الله تبديلًا، ومع ذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم فخالفوهم» فقد يشترك المسلم مع الكافر في شيبه وهو مفروض عليهما لا فرق، فلا تجد مسلمًا لا يشيب إلا ما ندر جدًا، كما أنك لا تجد كذلك كافرًا من باب أولى، فيصبح هنا اشتراك في المظهر بين المسلم وبين الكافر في أمر لا يملكانه
كما قلنا آنفًا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتقصد مخالفة المشركين في أن نصبغ شعورنا سواء كان هذا الشعر لحيًة أو شعر رأس، لماذا؟ ليظهر الفرق بين المسلم وبين الكافر، فما بالكم إذا كان الكافر يتكلف عمل شيء ثم يأتي بعض المسلمين فيفعلون فعلهم ويتأثرون بأعمالهم.
هذا أشد وأنكى من المخالفة؛ لذلك أردت التنبيه قبل أن أمضي فيما أنا في صدده من بيان الجواب الذي وجه السؤال عنه، فإذا عرفتم الفرق بين التشبه وبين المخالفة حينئذٍ فالمسلم الصادق في إسلامه يحاول دائمًا وأبدًا ليس أن يتشبه بالكافر وإنما يتقصد مخالفة الكافر، ومن هنا نحن سننا وضع الساعة في اليد؛ لأن العادة الكافرة وهم الذي اخترعوا هذه الساعة فإنما يضعونها في يسراهم، فهذا مما استنبطناه من قوله عليه السلام:«فخالفوهم» .
عرفتم هذا الحديث: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم فخالفوهم» فكما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في ذاك الكتاب، فقوله عليه الصلاة والسلام:«فخالفوهم» جملة تعليلية تشير إلى أن مخالفة الكفار مقصود للشارع الحكيم حيثما تحققت هذه المخالفة، ولذلك نجد لها تطبيقًا في بعض الأحكام الأخرى ولو أنها ليست في حكم الوجوب كمثل قوله عليه الصلاة والسلام:«صلوا في نعالكم وخالفوا اليهود» علمًا بأن الصلاة في النعال ليست فرضًا بخلاف إعفاء اللحية فهو فرض يأثم حالقها، أما الصلاة منتعلًا فهو أمر مستحب إذا ثابر المسلم واظب على إقامة الصلاة دائمًا وأبدًا حافيًا غير منتعل فقد خالف السنة ولم يخالف اليهود المتنطعين في دينهم.
وقد جاء في بعض المعاجم من كتب السنة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان في جمع فأقيمت الصلاة، وكان فيهم صاحبه أبو موسى الأشعري رضي
الله عنهما، فقدمه ليصلي بالناس إمامًا لعلم ابن مسعود أولًا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معجبًا بقراءة أبي موسى هذا رضي الله عنه، حيث قال له ذات يوم:«لقد مررت بك البارحة يا أبا موسى فاستمعت لقراءتك، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود عليه السلام» لما سمع هذا الثناء أبو موسى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لو علمت ذلك لحبرته لك تحبيرًا» بما يعلم ابن مسعود من رضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قراءة أبي موسى قدمه إمامًا، مع أن ابن مسعود ليس دون أبي موسى فضلًا في القراءة بل لعله وأسمى له في ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه:«من أحب أن يقرأ القرآن غضًا طريًا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» .
مع ذلك وهذا في الواقع يعطينا درسًا عمليًا نحن المسلمين في آخر الزمان حيث قد نجد صحوة علمية، ولكننا مع الأسف لا نجد معها صحوة سلوكية أخلاقية، فلا تؤاخذوني إذا قلت لكم: إنني أشعر أنكم حينما تدخلون في هذا المكان تتزاحمون وتتنافرون، وهذا ليس من الأخلاق الإسلامية، ويجب أن نمثل الصحوة في جانبيها في العلم وفي السلوك والأخلاق.
الشاهد: أن ابن مسعود فيما نرى نحن هو أقرأ من أبي موسى ومع ذلك تواضع مع صاحبه وآثره فقدمه ليصلي به وبالناس الحاضرين إمامًا، فتقدم أبو موسى رضي الله عنه، الشاهد: وكان منتعلًا فخلع نعليه، فقال ابن مسعود له مستنكرًا أشد الاستنكار: ما هذه اليهودية أفي الوادي المقدس أنت؟ يشير إلى قوله عليه السلام: «صلوا في نعالكم وخالفوا اليهود» إذا عرفتم هاتين الحقيقتين: النهي عن التشبه من جهة، والحظ على مخالفة المشركين من جهة أخرى حينذاك وجب علينا أن نجتنب كل مظاهر الشرك والكفر مهما كان نوعها ما دام أنا تمثل تقليدًا ولكي نتحاشى أن يصدق علينا نحن معشر المنتمين إلى العمل بالكتاب
والسنة قوله عليه الصلاة والسلام: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» هذا خبر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن تحذيرًا وذلك بأن هذه الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بل الحديث المتواتر: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية: «حتى يأتي أمر الله» .
إذًا: قد بشرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الصحيح بأن الأمة لا تزال في خير، فحينما يأتي ذلك الإخبار الخطير:«لتتعبن سنن من قبلكم» فلا يعني أن كل في فرد من أفراد الأمة ستتبع سنن الكفار وإنما سيكون ذلك في هذه الأمة فحينما يقول: لتتبعن، فهو بمعنى التحذير، أي: إياكم أن تتبعوا سنن من قبلكم فإنه سيكون فيكم من يفعل ذلك، وقد جاء في رواية أخرى خارج الصحيحين، وهي ثابتة عندي يمثل الرسول فيها تقليدًا للكفار إلى درجة خطيرة لا يكاد الإنسان يصدق بها إلا إذا كان مؤمنًا خالصًا، ثم الواقع يؤكد ذلك، قال عليه السلام في تلك الرواية:«حتى لو كان فيهم من يأتي أمه على قارعة الطريق لكان فيكم من يفعل ذلك» حتى لو كان فيهم من يأتي أمه .. يزني بأمه وليس ساترًا على نفسه وعلى أمه بل على مرأى من الناس وعلى قارعة الطريق لكان فيكم من يفعل ذلك.
التاريخ العصري اليوم يؤكد أن ما نبأنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اتباع بعض هذه الأمة سنن من قبلنا قد تحقق إلى مدى بعيد وبعيد جدًا وإن كنت أعتقد أن لهذا التتبع بقية، فقد جاء في بعض الأحاديث الثابتة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس على الطرقات تسافد الحمير» وهو الفاحشة، على الطرقات كما تتسافد الحمير، هذا هو منتهى التشبه بالكفار.
إذا علمتم النهي عن التشبه والأمر بالمخالفة نعود الآن: هذه التظاهرات التي كنا نراها بأعيننا في زمن فرنسا وهي محتلة لسوريا، ونسمع عنها في بلاد أخرى وهذا ما سمعناه الآن في الجزائر، لكن الجزائر فاقت البلاد الأخرى .. فاقت البلاد الأخرى في هذه الضلالة وفي هذا التشبه؛ لأننا ما كنا نرى الشابات أيضًا يشتركن في التظاهرات، فهذا تمام التشبه بالكفار والكافر؛ لأننا نرى في الصور أحيانًا وفي الأخبار التي تذاع في التلفاز والراديو ونحو ذلك خروج الألوف المؤلفة من الكفار سواء كانوا أوربيين أو صينيين أو نحو ذلك يقولوا في التعبير الشامي، وسيعلمكم هذا التعبير: يخرجون نساءً ورجالًا خليط مليط! هكذا يقولون عندنا، خليط مليط يتزاحمون الكتف بالكتف وربما العجيزة بالقبل ونحو ذلك، هذا هو تمام التشبه بالكفار أن تخرج الفتيات مع الفتيان يتظاهرون.
أنا أقول شيئًا آخر: بإضافة إلى أن هذا التظاهر ظاهرة فيها تقليد للكفار في أساليب استنكارهم لبعض القوانين التي تفرض عليهم من حكامهم أو إظهارًا منهم لرضى بعض تلك الأحكام أو القرارات، أضيف إلى ذلك شيئًا آخر ألا وهو: هذه التظاهرات الأوربية ثم التقليدية من المسلمين ليست وسيلة شرعية لإصلاح الحكم وبالتالي لإصلاح المجتمع.
ومن هنا يخطئ كل الجماعات وكل الأحزاب الإسلامية الذين لا يسلكون مسلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير المجتمع، لا يكون تغيير المتجمع بالنظام الإسلامي بالهتافات وبالصيحات وبالتظاهرات وإنما يكون ذلك على الصمت وعلى بث العلم بين المسلمين وتربيتهم على هذا الإسلام حتى تؤتي هذه التربية أكلها ولو بعد زمن بعيد، فالوسائل التربوية في الشريعة الإسلامية تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التربوية في الدول الكافرة.
لهذا أقول باختصار: إن التظاهرات التي تقع في بعض البلاد الإسلامية أصلًا هذا خروج عن طريق المسلمين وتشبه بالكافرين، وقد قال رب العالمين:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] في كل شيء .. {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
مداخلة: هؤلاء أصحاب التظاهرات والمظاهرات يستشهدون بما جاء في السيرة أنه لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج المسلمون في مكة، عمر في صف وحمزة في صف آخر، ويقولون هذه مظاهرة استظهارًا واستنكارًا لما يفعله طواغيت قريش وكفارهم، فما جوابكم عن هذا الاستشهاد.
الشيخ: جواب عن هذا: كم مرة وقعت مثل هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي؟
مداخلة: مرة واحدة.
الشيخ: طيب! مرة تصبح سنة متبعة؟ إن علماء الفقه يقولون: لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبادة مشروعة يثاب فاعلها، فلا ينبغي المواظبة عليها دائمًا أبدًا خشية أن تصبح تقليدًا متبعًا بحيث مع الزمن يصبح ذلك الأمر الذي أصله مستحبًا .. يصبح أمرًا مفروضًا في أفكار الناس وعاداتهم بحيث أن أحدًا من المسلمين لو ترك هذا المستحب لقام النكير الشديد عليه، قالوا هذا وهذا من فقههم، فما بالكم إذا جاشت العاطفة بمناسبة ما فخرجت مثل هذه الجماعة التي جاء ذكرها في السيرة فتتخذ سنة متبعة، بل تتخذ حجة لما يفعله الكفار دائمًا وأبدًا على المسلمين الذين لم يفعلوا ذلك بعد هذه الحادثة مطلقًا مع شدة وقوع ما يستلزم ذلك، فنحن نعلم مع الأسف الشديد أن كثيرًا من الحكام السابقين كانت تصدر منهم أحكام مخالفة للإسلام وكان كثير من الناس يسجنون ظلمًا وبغيًا وربما
يقتلون، فماذا يكون موقف المسلمين؟ أمر الرسول عليه السلام في بعض الأحاديث الصحيحة بوجوب إطاعة الحاكم ولو أخذ مالك وجلد ظهرك، أعني من هذا: أنه وقع في قرون مضت أشياء مما ينبغي استنكارها جماهيريًا ولكن شيء من ذلك لم يقع، ومن هنا نحن نخشى من هذه التي تسمى بالصحوة .. نخشى منها حقيقًة كما نرضى بها .. نخشى لأنها صحوة عاطفية وليست صحوة علمية بالمقدار التي تحصن هذه الصحوة من أن تميل يمينًا ويسارًا، فلا شك أن في الجزائر وفي كل بلاد الإسلام مثل هذه الصحوة التي تتجلى في انطلاق الشباب المسلم بعد أن كانوا نيامًا غير أيقاظ، ولكن تراهم قد ساروا مسيرة تدل على أنهم لم يتفقهوا في دين الله عز وجل، والأمثلة في ذلك كثيرة جدًا فلا نخرج عما نحن بصدده.
فحسبنا الآن هذا الاستدلال يدل على الجهل بالفقه الإسلامي ذلك لما أشرت إليه آنفاً: وقعت هذه الحادثة وأقول مستدركًا على نفسي: إني أذكر هذه الحادثة قد وردت في السيرة ولكني لا أستحضر الآن إن كانت صحيحة الإسناد، فإن كان أحدكم يعلم أن ذلك ورد في كتاب معتمد من كتب السنة فيذكرني وإلا فالأمر بالنسبة إلي يحتاج إلى مراجعة، فعلى افتراض ثبوت هذه التظاهرة حينما أسلم عمر رضي الله عنه، هذه وقعت مرة فإذا وقع مرة لا يصبح ذلك سنة بحيث نؤيد ما يفعله الكفار ثم نجعل المسلمين تحت المخالفة بهذه السنة لأنها لم تتكرر، وإن تكررت فعلى مدى العصور كلها هذه والسنوات الطويلة فهي نقطة في بحر، ما يصح أن تتخذ دليلًا لمثل هذا الواقع الذي يفعله الكفار ثم نحن نتبعهم في ذلك.
هذا الاستدلال معناه: تسليك وتبرير وتسويغ هذا الواقع مهما كان شأنه، أذكر
جيدًا أن علماء الحنفية قد نصوا في مسألة فقهية مع اعترافهم بأنها سنة محمدية أنه ينبغي تركها أحيانًا، ألا وهي سنة قراءة سورة السجدة يوم الجمعة، فهذا ثابت في الصحيحين، مع ذلك نص علماء الحنفية على أن إمام المسجد ينبغي عليه أن يدع هذه السنة أحيانًا خشية أن يترتب من وراء مواظبة الأئمة على هذه السنة قيام عقيدة في أذهان العامة تنافي هذه السنة وترفع حكمها فوق مستواها، وأنا عندي شواهد على هذا مما يؤكد لنا هذه الدقة في الفقه والفهم للسنة.
أذكر جيدًا أن إمام المسجد الكبير في دمشق الشام، مسجد بني أمية: صلى الإمام فيه صلاة الفجر يوم الجمعة ولم يقرأ سورة السجدة، فما كاد الإمام يسلم إلا قام قامت ضجة عظيمة جدًا من المصلين، ثاروا على الإمام لماذا أنت لم تقرأ سورة السجدة فأخذ الإمام يحاول إقناعهم بأنه يا أخواننا أنا أعلم أن هذه سنة وأنا أقرأ بها دائمًا في فجر كل جمعة، ولكن ينبغي ترك هذه السنة أحياناً، ولكن كما قال الشاعر:
ولو ناديت أسمعت حيًا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت فيها أضاءت
…
ولكن أنت تنفخ في رماد
إلى زمن بعيد جدًا سبب أن هذا الإمام ترك قراءة سورة السجدة في ذلك الصباح، وأغرب من ذلك ما وقع لي شخصيًا: كنت
…
في قرية تبعد عن دمشق تقريبًا نحو ستين كيلو متر اسمها: مضايا وهي في جبل، فنزلت صباح الجمعة إلى المسجد لأصلي مع جماعة المسلمين هناك فاتفق أن الإمام لم يأت، فنظروا فلم يجدوا هناك سواي وأنا يومئذٍ شاب لكن لحيتي بدأت تنبت، فظنوا بي خيرًا فقدموني، أنا في الحق لا أحفظ سورة السجدة جيدًا، فما أحببت أن أخاطر فافتتحت سورة مريم وقرأت منها الصفحتين الأوليين في الركعة الأولى، فلما
أردت الركوع وكبرت راكعًا وإذا بي أشعر بأن الناس كلهم هووا ساجدين .. أنا راكع وهم سجدوا، هذا يدلكم على ماذا؟ على العادة.
ومع الأسف كما يوجد في بعض المساجد القديمة وحتى بعض الحديثة منبر طويل يقطع الصف، وليس الصف الأول فبعض هذه المنابر تقطع صفين على الأقل، كان هذا المنبر مع صغر المسجد هناك في القرية قطع الصف الأول والثاني، فالذين كانوا خلفي مباشرًة أحسوا بخطئهم فتداركوه وشاركوني في الركوع، أما الذين كانوا خلف المنبر فظلوا ساجدين حتى سمعوا قولي: سمع الله لمن حمده، وإذا بهم يصيحون، يعني: أبطلوا صلاتهم، ضوضاء وغوغاء، وتابعت أنا بطبيعة الحال حتى قضيت الصلاة بتمامها ثم التفت إليهم، قلت لهم: يا جماعة ألا تستحون! أنتم عرب أو عجم ما تفرقون بين قول القارئ في أول ركعة: ألم، وبين كهيعص، ما تفرقون بين هذا وهذا! لو هذا وقع في بلاد الأعاجم لكان عارًا عليهم فما بالكم أنتم وأنتم عرب، لكن يبدوا أن عقولكم مشغولة بالزرع والضرع ونحو ذلك من الأمور.
ففي هذه الحادثة تأكدت من صحة قول العلماء الذين أشرت إليهم آنفًا، بأن على الإمام أن يراعي وضع المجتمع الذي يعيش فيه حتى لا يغالوا في بعض الأحكام، فهذه القصة والتي قبلها تبين لكم أن المسائل في الشرع يجب أن تؤخذ بدون مبالغة .. بدون أن نرفع ما كان سنًة إلى حد الوجوب، وما كان فرضًا ننزل به إلى حد السنة، هذا كله إفراط أو تفريط لا يجوز، فهذا جواب عن هذا الاستدلال الذي يدل على جهل المستدلين به.
مداخلة: لعل القصة هذه وردت في
…
إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في سير أعلام النبلاء.
الشيخ: لا بأس! لكن هذا لا يفيدنا الصحة.
مداخلة: لا، الإسناد ضعيف .. قصة إسلام عمر بن الخطاب ضعيفة.
الشيخ: أنا معك قصة إسلام عمر بن الخطاب، والتي يقول فيها أنه دخل على أخته إلى آخره، هذه القصة ضعيفة فعلًا وهي يستدل بها القائلون بأنه لا يجوز للمسلم أن يمس القرآن إلى على طهارة، فإن كانت هذه القصة لم ترد إلا بهذا الطريق فهي قصة ضعيفة، أما أنا قلت آنفًا متحفظًا خشية أن تكون هذه القصة لوحدها وردت في شيء من كتب السنة بإسناد آخر فيكون هذا الإسناد إما حسنًا لذاته أو حسنًا لغيره.
أما القصة المعروفة وقد أخرجها الإمام الدارقطني في سننه، فأنا
…
الآن بالعزو، فأقول: أن القصة رواها الإمام الدارقطني في سننه وبإسناد ضعيف، فإن كانت هذه القصة التي فيها تلك المظاهرة وردت أي: إسناد آخر ممكن الاستشهاد به أو الاستدلال فبها، وإلا فهذه القصة التي أشار إليها الأخ هي ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها.
(فتاوى جدة- أهل الحديث والأثر (12) /00: 02: 27)