الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن سوء حظ المملكة القوطية أن كان النظام الملكي القوطي قائماً على الانتخاب، وأن كان المرشحون للعرش كثيرين، فيقتتل أنصار هؤلاء المرشحين على الدوام، ويمرقون باقتتالهم المملكة القوطية، ولذا لم يكن الأشراف ممن يركن إليهم.
نزاع اجتماعي، وفتن داخلية، وفقدان للروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، هذه هي الحال التي كانت عليها مملكة القوط حين ظهور العرب، وكان من المنافسات التي تمزق الدولة القوطية أن تنقل الأمير يليان ورئيس أساقفة إشبيلية، وهما من علية الإسبان، فتح إسبانية على العرب.
(2) استقرار العرب بإسبانية
دخل جيش إسلامي مؤلف من اثني عشر ألف جندي بلاد إسبانية في سنة 711 م، أي في زمن الخليفة العاشر الذي كانت دمشق عاصمته.
ومن يقطع القسم الجنوبي الخصب من بلاد إسبانية يعلم مقدار التأثير الذي أثر به في نفوس العرب حينما استولوا عليه؛ فقد بهرتهم تربته وهواؤه ومدنه ومبانيه.
ووصفت إسبانية في كتاب أرسله قائد الجيش العربي إلى الخليفة الأموي بأنها: «شامية في طيبها وهوائها، يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها.»
واستولى المسلمون على ساحل إسبانية مبتدئين بجبل طارق الذي اقتبس اسمه من اسم طارق بن زياد البربري الذي هو من رجال القائد العربي موسى بن نصير.
وكان العرب قد قضوا خمسين سنة في فتح إفريقية البربرية، ولم يقضوا سوى بضعة أشهر في فتح جميع إسبانية النصرانية، وتقرر مصير مملكة القوط في المعركة الأولى المهمة التي خاض المسلمون غمارها، والتي كان رئيس أساقفة إشبيلية حليفاً لهم فيها، والتي تخسر القوط فيها ملكهم وخسروا إسبانية.
وعجب موسى بن نصير من ذلك النصر السريع الذي لم يتوقعه، ولا غرو، فقد كان يتصور ما لاقاه من الشدائد في فتح إفريقية، وكان يعتقد أنه سيلقى في أوربة من الشجاعة وحب الاستقلال ما لقيه في البربر، فلما تبين له خطؤه أراد أن يشارك طارق بن زياد في مجد الفتح؛ فعبر البحر بجيش مؤلف من اثني عشر ألف جندي عربي وثمانية آلاف جندي بربري، ليواصل فتح إسبانية.
أتم العرب فتح إسبانية بسرعة مدهشة، وذلك أن المدن الكبيرة سارعت إلى فتح أبوابها للغزاة، فدخل الغزاة قرطبة ومالقة وغرناطة وطليطلة صلحاً تقريباً، ووجد العرب في طليطلة التي كانت عاصمة النصارى تيجان خمسة وعشرين ملكاً قوطياً، وأسروا أرملة للملك القوطي، رودريك، التي تزوجها ابن القائد موسى بن نصير فيما بعد.
شكل 6 - 2: داخل جامع قرطبة.
وأحسن العرب سياسية سكان إسبانية كما أحسنوا سياسة أهل سورية ومصر، فقد تركوا لهم أموالهم وكنائسهم وقوانينهم وحق المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا سوى جزية سنوية تبلغ ديناراً (15 فرنكاً) عن كل شريف ونصف دينار عن كل مملوك، فري سكان إسبانية بذلك طائعين، وخضعوا للعرب من غير مقاومة، ولم يبق على العرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأريستوقراطية المالكة للأرضين.
ولم يدم القتال طويلاً، وذلك أن العرب كسروا كل مقاومة، ودانت لهم جميع إسبانية في سنتين، ولكن لا إلى الأبد، فقد استرد النصارى ما يروه بعد جهاد ثمانية قرون.
ويروى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكر، بعد فتح إسبانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم
القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفق موسى بن نصير لذلك؛ لجعل أوربة مسلمة، ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية، ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الذي لم تعرفة إسبانية بفضل العرب.
ولنتكلم، أولاً، عن امتزاج أهل البلاد بسادتهم الجدد قبل أن نقص عليك ماذا تم للعرب في إسبانية: كان أوائل الغزاة الإسبانية من العرب والبربر، وكان يوجد بضع قبائل سورية في الجيوش التي استولت عليها بعدئذ، ولم يكن عدد ما اشتملت عليه هذه القبائل كثيراً، ولم يظهر أمرها إلا في دور الفتح الأول، فماذا كان شأن العرب والبربر وأهل إسبانية بعد ما دانت إسبانية للعرب؟
يرى المحقق البصير في تاريخ المسلمين بإسبانية أن الإمامة الثقافية ورسالة التمدن كان يقوم بهما العرب، وأن البربر اختلطوا بطبقات الأهلين الوسطى والدنيا، وأن العرب حافظوا على شرفهم الثقافي حتى بعد أن قبض البربر على زمام الحكم.
وليس لدينا من الوثائق ما نتمكن به من تقدير نسبة العرب والبربر في مئات السنين الثماني التي دام فيها سلطان الإسلام بإسبانية، ولكن سير الأمور يدل على أن العنصر البربري أخذ يزيد بعد انفصال إسبانية عن خلافة المشرق، ولا سيما بعد توالي غارات بربر مراكش التي كانوا يشنونها عليها.
والحق أن العرب، بعد ذلك الانفصال، كانوا يعتمدون في بقائهم في إسبانية على تناسلهم، وأن البربر كانوا يزيدون فيها بمن يعبر جبل طارق من إخوانهم المراكشيين طلباً للثراء.
ويظهر أن التوالد لم يقتصر على العرب والبربر وحدهم، بل توالد العرب والبربر وسكان إسبانية الأصليون أيضاً، فكان العرب يتزوجون النصرانيات على الخصوص، فيمدون بذلك دوائر حريمهم ويديمون بذلك نسلهم.
وروى مؤرخو العرب أن العرب تزوجوا في بدء الفتح ثلاثين ألف نصرانية، ولا يزال يرى في قصر إشبيلية ردهة تدعى ردهة الصبايا اللائي كان النصارى يلزمون بتقديم مائة منهن إلى أحد ملوك العرب في كل سنة كجزية، فنحن إذا ما رأينا أن هؤلاء النصرانيات كن من مختلف الأجناس، وأنه كان يجري في عروقهن الدم الإيبري واللاتيني واليوناني والقوطي
…
وغير ذلك، علمنا أنه نشأ عن توالد النصارى والبربر والعرب، الذي دام في بيئة واحدة قروناً كثيرة، عرق جديد مختلف عن العروق التي فتحت إسبانية
شكل 6 - 3: محراب جامع قرطبة (من تصوير مورفي).
اختلافا بينا، وأن العناصر الكثيرة التي أدى تمازجها إلى ظهور ذلك العرق كانت في أحوال تؤدي إلى تكوينه تكويناً مطابقاً لما ذكرناه في فصل سابق عن فعل البيئة والتوالد.
ولا أبحث هنا في تاريخ ملوك العرب أو البربر الذين ملكوا إسبانية ثمانمائة سنة، وإنما أوجز أهم الحوادث السياسية التي وقعت في تلك المدة الطويلة إيجازاً يكفي لفهم هذا الفصل: كانت إسبانية، التي تم فتحها في سنة 711 م، تابعة الخلفاء دمشق حتى سنة 756 م، وكان ينوب عن هؤلاء الخلفاء أمراء في شؤون حكمها، فلما كانت سنة 756 م انفصلت إسبانية عن خلافة المشرق، وقامت فيها دولة مستقلة عرفت في التاريخ بخلافة قرطبة التي أصبحت عاصمة لها.
شكل 6 - 4: رسم جامع قرطبة (كما جاء في كتب العرب القديمة).
وأخذ نجم العرب السياسي في إسبانية يأفل بعد أن مضى على سلطانهم ثلاثة قرون بلغت الحضارة العربية فيها ذروتها، وشرع النصارى الذين دحرهم العرب إلى الشمال يستفيدون مما كان يقع بين المسلمين من الفساد والفتن، وصاروا يغيرون عليهم.
واستغاث عرب إسبانية ببربر مراكش في سنة 1085 م، ليحولوا دون توالي انتصارات ملك قشتالة وليون: الأذفونش السادس، ولم يلبث هؤلاء البربر الذين جاءوا إلى إسبانية حلفاء للعرب أن ظهروا لهم بمظهر السيد، وأسفر تنازع العرب والبربر عن انقسام دولة العرب إلى عشرين دويلة، وعن قبض المرابطين والموحدين وغيرهم من البربر على زمام الأمور، وعن تكمش العرب إزاء البربر، وعن تدرج الحضارة العربية إلى الانزواء.
واهتبل النصارى تلك القرص، فوسعوا دائرتهم على حساب المسلمين، وأقاموا دويلات كثيرة كبلنسية وقشتالة ومرسية وغيرها مما انتهى إلى أربع دول، وهي: البرتغال ونبرة وأرغونة وقشتالة.
شكل 6 - 5: باب الشمس في طليطلة (من صورة فوتوغرافية).
ولم يبق للعرب في أواخر القرن الثالث عشر سوى مملكة غرناطة، ولما تزوج ملك أرغونة فرديناند الكاثوليكي ملكة قتشالة إيزابلا، وتمت بذلك وحدة تينك الدولتين، حاصر في سنة 1492 غرناطة، التي كانت آخر معقل للإسلام في إسبانية، وفتحها، ثم ضم إليه مملكة نبرة، فأصبحت جميع إسبانية، خلا البرتغال، تابعةً لعرش واحد.
ودامت دولة العرب في إسبانية نحو ثمانية قرون، أي ما يقرب من مدة سلطان الروم، وأدى انقسامها إلى زوالها أكثر مما أدت إليه الغارات الأجنبية، فالعرب، وإن كانت عبقريتهم الثقافية من الطراز الأول، لم يبد نبوغهم السياسي غير ضعيف.
وعاهد فرديناند العرب على منحهم حرية الدين واللغة، ولكن سنة 1499 م لم تكد تحل حتى حل بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قروناً، والذي لم ينته إلا بطرد العرب من إسبانية، وكان تعميد العرب كرهاً فاتحة ذلك الدور، ثم صارت محاكم
شكل 6 - 6: مقدم القصر في إشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
التفتيش تأمر بإحراق كثير من المعمدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهير بالنار إلا بالتدريج، لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينال طليطلة التقي، الذي كان رئيساً لمحاكم التفتيش، بقطع رءوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالاً ونساء وشيوخاً وولداناً، ولم ير الراهب الدومينيكي، بليدا، الكفاية في ذلك؛ فأشار بضرب رقاب من تنصر من العرب ومن بقي على دينه منهم، وحجته في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب، إذن، قتل جميع العرب بحد السيف؛ لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، ويدخل النار من لم يكن صادق النصرانية منهم، ولم تر الحكومة الإسبانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيده الإكليروس في رأيه لما قد يبديه الضحايا من مقاومة، وإنما أمرت، في سنة 1610 م، بإجلاء العرب عن إسبانية، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب البارع، بليدا، ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من 140000 مهاجر مسلم حينما كانت متجهة إلى إفريقية.
شكل 6 - 7: سقف محراب جامع قرطبة القديم (طراز بيزنطي عربي، آثار إسبانية المعمارية).
وخسرت إسبانية بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويقدر كثير من العلماء، ومنهم سيديو، عدد المسلمين الذين خسرتهم إسبانية، منذ أن فتح فرديناند غرناطة حتى إجلائهم الأخير، بثلاثة ملايين، ولا تعد ملحمة سان بارتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يؤبه له، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين.
ومما يرثى له أن حرمت إسبانية عمداً هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.
ثم رأت محاكم التفتيش أن بيد كل نصراني ترى فيه شيئاً من النباهة والفضل، فكان من نتائج هذه المظالم المزدوجة أن هبطت إسبانية إلى أسفل دركات الانحطاط بعد أن بلغت قمة المجد، وأن انهار معاً كل ما كان فيها من الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والآداب والسكان.