الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
العلوم الجغرافية
(1) ريادات العرب الجغرافية
كان العرب من السياح المقاديم في كل وقت، وكانوا لا يَخْشَون المساوف والمراحل، واليوم، أيضاً، نراهم يأتون مكة من أقصى البِقاع، ويجوبون بقوافلهم داخل إفريقية كأمر بسيط، فيصادفهم فيها الأوربيون الذين لا يبلغونها إلا بشقِّ الأنفس.
وكان للعرب، منذ السنين الأولى من قيام دولتهم، علائقُ تجاريةٌ بما كان الأوربيون يَشُكُّون في وجوده من البلدان، كالصين وبعض البقاع الروسية ومجاهل إفريقية
…
إلخ.
والآن أشير بإيجازٍ إلى أعمالهم الجغرافية ورياداتهم وحدها، ما دمتُ سأذكر، في الفصل الذي خصصته للبحث في علاقات المسلمين التجارية، البلادَ التي كانت لهم صلات تجارية بها، والطرق التي كانوا يسلكونها للوصول إليها.
وكانت طليعةُ رُوَّادِ العرب مؤلفةً من تجار يَسِيحُون للتجارة، وعلى ما كان يُعْوِز هؤلاء من الاستعداد الضروري للتأمل العلمي لم تخلُ رِحلاتهم التجارية من طرائف مفيدةٍ في بعض الأحيان.
حقاً لم يخرج أمر سِياحات العرب القديمة التي انتهى إلينا خبرها عن ذلك المعنى، ومنها سياحةُ التاجرِ سليمانَ لبلاد الصين في القرن التاسع من الميلاد، فقد أبحر سليمان من مرفأ سيراف الواقع على الخليج الفارسي حيث كانت تكثر المراكب الصينية، وجاوز المحيط الهندي، وبلغ شواطئ بلاد الصين، وكَتَبَ رحلته في سنة 851 م، ثم أكمل أحد أبناء وطنه أبو زيد كتاب هذه الرحلة في سنة 880 م، وأضاف إليها معارف أخذها عن عربٍ زاروا بلاد الصين.
وكتاب سليمان، الذي نُقل إلى اللغة الفرنسية في أوائل القرن الأخير، هو أول مؤلَّفٍ نُشر في بلاد الغرب عن بلاد الصين.
شكل 4 - 1: خريطة عربية وضعت في أواسط القرن الثاني عشر من الميلاد (رسمها بريس الأفيني في القاهرة).
وإذا كان سليمان باحثاً عادياً فغيرُ ذلك شأن المسعودي الشهير الذي وُلد ببغداد في أواخر القرن التاسع من الميلاد، فقد قَضى المسعودي خمساً وعشرين سنة من حياته في الطواف في مملكة الخلفاء الواسعة، وفي الممالك المجاورة لها كبلاد الهند، وقيَّد ما شاهده في تآليفه الكثيرة المهمة التي نَعد كتاب «مروج الذهب» أشهرها، قال المؤرخ العربي العلامةُ ابن خلدون الذي ذكرناه غيرَ مرة والذي ظهر بعد المسعودي بأربعمائة سنة ما يأتي:
فأما ذِكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أسُّ للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده، وتَتَبين به أخبارُه، وقد كان الناس يفردونه بالتأليف، كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب، شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثلاثين والثلاثمائة (941 م) غرباً وشرقاً، وذكر نِحَلهم وعوائدهم، ووَصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول، وفرَّق شعوب
العلوم الجغرافية
العرب والعجم، فصار إماماً للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلاً يُعوِّلون في تحقيق الكثير من أخبارهم.
ثم بدأ ابن حوقل، الذي وُلد كالمسعودي في بغداد برحلاته بعد أن تمت رحلات المسعودي، واسمَع ما قاله ابن حوقل في كتابه:
قد عَمِلْتُ كتابي هذا بصفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان ومحلِّ الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام، بتفصيل مدنها، وتقسيم ما تَفَرَّد بالأعمال المجموعة إليها، وقد جعلتُ لكل قطعة أفردتُها تصويراً وشكلاً يَحْكي موضعَ ذلك الإقليم، ثم ذكرتُ ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار، وما يحتاج إلى معرفته من جواملِ ما يشتمل عليه ذلك الإقليم من وجوه الأموال والجبايات والأعشار والخراجات والمسافات في الطرُقات، وما فيه من المجالب والتجارات؛ إذ ذلك علمٌ يتفرَّد به الملوك والساسة وأهل المروءات والسادة من جميع الطبقات.
ورافق البيرونيُّ السلطانَ محموداً الغزنوي في حملته التي جردها على بلاد الهند في سنة 1000 م، ونشر ما شاهده في بلاد السند وشمال الهند، وحاول البيروني أن يُصَحح خريطة تلك البلاد مستنداً إلى حسابه الفلكي.
ويمكن أن نعُدَّ من السياح أبا الحسن الذي عاش في القرن الثالث عشر من الميلاد وذكرناه بين علماء الفلك، فقد اجتاب بالحقيقة شمالَ إفريقية الممتد من مراكش إلى مصر، وعَيَّنَ، تعييناً فلكياً، مواضع أربعٍ وأربعين مركزاً مهماً قاصداً تصحيح خريطة بطليموس عن الدوائر الإفريقية.
وآخر رحالة عربي كبير نذكره هو ابن بطوطة الذي بدأ بسياحاته في سنة 1325 م، مسافراً من مدينة طنجة المراكشية ومُجَوِّلاً في إفريقية الشمالية ومصر وفلسطين والعراق وشمال جزيرة العرب إلى مكة، وفي روسية الجنوبية والقسطنطينية
…
إلخ، والذي ذهب إلى بلاد الهند مارٍّا من بخارى وخراسان وقندهار، فبلغ مدينة دهلي التي كانت من العواصم الإسلامية، والتي أوفده سلطانها إلى عاهل الصين فانتهى إلى بلاد الصين بحراً، وقد زار في طريقه إلى الصين سيلان وسومطرة وجاوة، ووصل إلى المدينة التي تُعرف ببكين في الوقت الحاضر، ثم عاد إلى وطنه بطريق البحر.