الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيمان الجديد ما كانوا يجهلون من فنون تعبئة الجيش والنظام وأعتدة الحرب، وقد تم استعدادهم في بضع سنين، وقد بهت الروم حين حاصر العرب دمشق، ورأوهم مجهزين بمثل ما كان عندهم من الآلات الحربية الكاملة الجيدة.
(2) طبيعة فتوح العرب
لم تقل براعة الخلفاء الأولين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عجل، وذلك أنهم اتصلوا منذ الوقائع الأولى بسكان البلاد المجاورة الأصليين الذين كان يبغي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة، والذين كانوا مستعدين لأن يستقبلوا بترحاب وحبور أي فاتح يخفف وطأة الحياة عنهم، وكانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها، مكتفين بأخذهم، في مقابل حمايتها، جزية زهيدة تقل عما كانت تدفعه إلى سادتها السابقين من الضرائب.
وكان العرب، قبل أن يسعوا إلى فتح بلد، يرسلون رسلاً حاملين إليه شروطاً للوفاق، وتكاد هذه الشروط تكون مماثلة للشروط التي عرضها عمرو بن العاص على أهالي غزة حين حصاره لها في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وللشروط التي عرضت على المصريين وأهل فارس، وتلك الشروط التي عرضها عمرو بن العاص هي -كما رواه المؤرخ العربي- المكين، ما يأتي:«أمرنا صاحبنا أن نقاتلكم إلى أن تكونوا في ديننا فتكونوا إخوتنا، ويلزمكم ما يلزمنا فلا نتعرض إليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم إن تعرض إليكم في وجهٍ من الوجوه، ويكون لكم عهد علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف فنقاتلكم حتى تفيئوا إلى أمر الله.»
ويثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يعامل به العرب الفاتحون الأمم المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامة، فلم يرد عمر أن يدخل مدينة القدس معه غير عدد قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهداً باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بيعهم.
شكل 3 - 5: قطعة من نقود ابن طولون (157 هـ/ 870 م).
شكل 3 - 6: قطعة من نقود الخليفة الرضي (327 هـ/ 933 م).
ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقاً من ذلك فقد عرض على المصريين حرية دينية تامة، وعدلاً مطلقاً واحتراماً للأموال وجزيةً سنوية ثابتة لا تزيد على خمسة عشر فرنكاً عن كل رأس بدلاً من ضرائب قياصرة الروم الباهظة، فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط دافعين للجزية سلفاً، وقد بالغ العرب في الوقوف عند حد هذه الشروط، والتقيد بها، فأحبهم المصريون الذين ذاقوا الأمرين من ظلم عمال قياصرة القسطنطينية النصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أيما إقبال.
ونتائج مثل هذه لا تنال بالقوة كما قلت غير مرة، ولم يظفر بمثلها من ملك مصر من الفاتحين قبل العرب.
وللفتوح العربية طابع خاص لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيان ذلك أن البرابرة الذين استولوا على العالم الروماني والترك وغيرهم، وإن استطاعوا أن يقيموا دولاً عظيمة، لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشقة من حضارة الأمم التي قهروها، وعكس ذلك أمر العرب الذين أنشأوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها، والذين تمكنوا من اجتذاب
شكل 3 - 7: قطعتان من نقود الخليفة الفاطمي المستنصر (442 و 465 هـ/ 1050 و 1072 م)
شكل 3 - 7 قطعة من نقود صلاح الدين ضربت بدمشق سنة 583 هـ/ 1072 م وعلى أحد وجهيها اسم الخليفة العباسي ببغداد.
أمم كثيرة إلى دينهم ولغتهم فضلاً عن حضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة، كشعوب مصر والهنود، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك الدور أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب فظل نفوذ العرب فيها ثابتاً، ويلوح لنا رسوخ هذا النفوذ إلى الأبد في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند، والإسبان وحدهم هم الذين استطاعوا أن