الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
اصطراع النصرانية والإسلام
الحروب الصليبية
(1) منشأ الحروب الصليبية
كان سلطان العرب السياسي في أواخر القرن الحادي عشر من الميلاد، أي في الدور الأول من الحروب الصليبية، في طور الانحطاط، وإن لم يذو نفوذ اسمهم في العالم، فقد كانت إفريقية وإسبانية قبضتهم، ولم يتقادم بعد الزمن الذي كانوا فيه سادة البحر المتوسط وسادة جزء من فرنسة وملوكاً لصقلية، والذي أوغلوا فيه حتى رومة فأكرهوا البابا على دفع جزية إليهم، ولم يصل قياصرة الرومان في إبان مجدهم إلى ما وصل إليه اسم محمد من إلقاء الرعب في برابرة أوربة، فهجوم أوربة النصرانية على الإسلام الذي كانت فرائص العالم ترتجف فرقاً منه منذ خمسة قرون، وذلك في عقر داره، من الأعمال العظيمة التي كانت تتطلب حماسة دينية بالغة، واعتماداً كبيراً على الرب، وجيشاً مؤلفاً من مليون جندي.
وكل يعلم كيف أجاب العالم النصراني دعوة ذلك المجذوب، وكيف انقضت أمم على الشرق، وكيف أن سوق تلك الجيوش الهائلة لم يؤد إلى غير نصر وهمي، وكيف فلت عزيمة مجاهدي النصارى الذين لم ينقطع سيلهم مدة قرنين من أجل فتح القدس، والمحافظة عليها أمام هلال الإسلام.
واصطلح الناس على تسمية ذلك الصراع بين النصرانية والإسلام بالحروب الصليبية، وكان لتلك الحروب نتائج مهمة في تاريخ حضارة أوربة العام، وليس من الجائز أن
نصمت عنها إذن في هذا الكتاب الذي لم نقتصر فيه على بيان حضارة العرب وحدها، بل عزمنا فيه على درس تأثيرهم في العالم أيضاً.
ولنقل كلمة عن حال الغرب والشرق في زمن الحروب الصليبية.
كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلاماً، وكان النظام الإقطاعي يأكل فرنسة، وكانت مملوءة بالحصون التي كان أصحابها، وهم من أنصاف البرابرة، يقتتلون دائماً ولا يملكون سوى أناس من العبيد الجهال، ولم يكن في ذلك الحين نفوذ شامل لسوى البابا، وكان الناس يخشون البابا أكثر من احترامهم له.
وكانت دولة الروم في الشرق قائمة، وكانت القسطنطينية، مع انحطاطها، عاصمة لدولة كبيرة، وكانت ميداناً للمنازعات الدينية وأنواع المشاحنات، وكانت تخسر كل يوم جزءاً من أملاكها، فضلاً عن انطفاء سلطانها في إيطالية، وكان كل من بابا رومة وبطرك بيزنطة قد حرم الآخر فصار للنصارى كنيستان.
وكان قسم من سورية تابعاً للترك السلجوقيين، وكان القسم الآخر تابعاً لسلاطين مصر، ولم يكن الخليفة ببغداد غير شبح، وكانت دولة العرب السياسية في دور الانحلال مع محافظة حضارتهم على سلطانها، ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم، إذن، غير نزاع عظيم بين أقوام من الهمج وحضارة تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ.
وكانت الصلات بين أوربة والشرق مقصورةً على زيارة حجيج النصارى لفلسطين في ذلك الدور، وواظب النصارى على زيارة فلسطين مع زيادة منذ زمن قسطنطين، ولا سيما منذ كنت العلاقات بين هارون الرشيد وشارلمان.
وزاد عدد زيارات النصارى لفلسطين مع الزمن، وكان يتألف من بعض قوافل حجاج النصارى جيش حقيقي، ومن ذلك أن استصحب الأب ريشارد سبعمائة حاج في سنة 1045 م، ولم يستطع أن يصل إلى ما هو أبعد من قبرس، ومن ذلك أن رئيس أساقفة مايانس، سيغفروا، وأربعة أساقفة يقودون قافلة من سبعة آلاف حاج في سنة 1064 م ومشتملة على بارونات وفرسان، فحاربت هذه القافلة الأعراب والتركمان.
وما كان يعتور زيارات القدس من المصاعب والمخاطر أوجب فض الإكليروس لها عادين إياها مكفرةً عن أسوأ الجرائم، وما كان عدد أكابر المجرمين قليلاً في ذلك الزمن، وما كان خوف جهنم والشيطان ضئيلاً في نفوس البرابرة، فزاد عدد الحجيج
لهذا السبب، وأنت إذا ما عدوت بعض المغامرين والأتقياء الحمس وجدت أولئك الحجاج مؤلفين، على العموم، من أسفل المجرمين المفطورين على أخطر الجرائم، والذين ما كان غير الفزع من النار ليدفعهم إلى قصد تلك البلاد البعيدة.
شكل 8 - 1: باب دمشق في القدس (من صورة فوتوغرافية).
وكان عدد حجيح النصارى يزيد كل يوم، وكان ضجيجهم يزيد على ما كان عليه، وكان التركمان الذين قاموا مقام العرب في سورية أقل تسامحاً من العرب، فجادل هؤلاء التركمان أولئك النصارى في حق المرور من وسط البلاد الإسلامية بلا إذن إيفاء لزيارة بيت المقدس، وأكرهوا حجيج النصارى على دخول القدس بخشوع بدلاً من أن يسمحوا لهم بدخولها ظافرين على صوت الصنوج وضوء المشاعل كما كان العرب يسمحون به، وأخذوا يحملونهم على دفع الفدي غير تاركين وسيلة لإيذائهم إلا أتوها.
وحدث أن جاء لزيارة بيت المقدس جندي قديم كان قد ترهب بعد أن طرأ على حياته الروحية ما كدر صفوه، وكان اسم هذا المجذوب المتعصب النشيط بطرس، فأضاف التاريخ إلى اسمه لقب «الناسك» .
واشتاط بطرس الناسك غيظاً من سوء ما عومل به في فلسطين، وغاص بطرس الناسك في بحر من الأحلام فرأى أنه مرسل لدعوة أوربة إلى إنجاد الأرض المقدسة.
وملكت هذه الأوهام مشاعره فتوجه إلى رومة ليستعين بالبابا، فأذن له الباب أوربان الثاني في دعوة النصارى إلى إنقاذ الأماكن المقدسة، فصار يجوب بلاد إيطالية وفرنسة ويلقي الخطب النارية ممزوجة بالبكاء والعويل وصب اللعنات على الكافرين، وبوعد