الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يعلم محمد بالأمر إلا بعد أن حاصر المؤتمرون منزله، واستطاع محمد، مع ذلك أن يتسلل ليلاً من بين المؤتمرين، وأن يتفلت من مطاردة قريش له، وأن يصل هو وصديقه أبو بكر إلى يثرب التي سميت بالمدينة بعدئذ.
وكانت هذه الهجرة في سنة 622 م، واتخذها العرب مبدأ لتاريخهم.
(3) محمد بعد الهجرة
دخل محمد المدينة دخول الظافرين، وأظل أصحابه رأسه بسعوف النخل، وصارت الجموع ترتمي على قدميه.
وشرع محمد، منذ وصوله إلى المدينة، ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن، الذي كان في دور التكوين، يكتمل بفضل تواتر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الأساسية التي كانت قد عرضت.
ووضعت شعائر الإسلام بالتعاقب، فسن الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلوات الخمس، وفرض صوم شهر رمضان، أي الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهراً كاملاً، وفرضت الزكاة التي يعين المسلم بها الدين الذي أقيم.
وصار محمد، بعد وصوله إلى المدينة، يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمة؛ ففيها هزم جنود محمد، الذين لم يزيدوا على 314 مقاتلاً، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، أعداءهم الذين كانوا ألفي مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامة في بدر فاتحة شهرته الحربية.
وتوالت الوقائع بين محمد وجيرانه، وكانت كل مصيبة تصيبه يعقبها انتصار له في الغالب، وكان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلاً إذا ما نصر، وهو لم يقس على أعدائه إلا مرة واحدة حين أمر بأن تضرب رقاب سبعمائة معتقل يهودي خانوه.
وعظم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لا بد له من فتح مكة حتى يعم نفوذه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحسام وصولاً إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه 1400 من أصحابه، ولم يكتب له دخوله، وقد دهش رسل قريش من تعظيم أصحابه له، فقال أحدهم: «إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما فو الله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه
…
».
ورأى محمد بعد ذلك الإخفاق أن يروح أصحابه، فخف بهم إلى مدينة خيبر المحصنة المهمة الواقعة في شمال المدينة الغربي، والبعيدة منها مسيرة خمسة أيام، والتي كانت تقطن فيها قبائل يهودية، والتي كانت مقر تجارة اليهود، ففتحها عنوة، وشعر محمد بدنو أجله بعد خيبر، وذلك أن زينب اليهودية أهدت إليه شاة مسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها، ثم لفظها بعد أن ذاق طعماً غريباً فيها، وقال:«تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة» ، ثم دعا بزينب الإسرائيلية فاعترفت اعترافاً دقيقاً، ونجت من العقاب حين قالت:«لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر» ، ولم تزل أكلة خيبر تعاوده مع حماية الله له، فتوفي بتأثيرها بعد ثلاث سنين كما روى المؤرخون.
شكل 1 - 2: مخيم حجاج بالقرب من المدينة (من صورة فوتوغرافية).
ولما أحس محمد نمو سلطانه عم على فتح مكة، وألف جيشاً من عشرة آلاف محارب، أي ألف جيشاً لم يسبق أن جمع مثله، وبلغ محمد أسوار مكة، وفتحها به من غير قتال، وذلك بقوة ما تم له من النفوذ.
وعامل محمد قريشاً، الذين ظلوا أعداءً أشداء له عشرين سنة، بلطف وحلم، وأنقذهم من سورة أصحابه بمشقة، مكتفياً بمسح صور الكعبة وتطهيرها من الأصنام (الـ 360)
التي أمر بكبها على وجوهها وظهورها، وبجعل الكعبة معبداً إسلامياً، وما انفك هذا المعبد يكون بيت الإسلام.
ودخل أكثر القبائل المجاورة في الدين الإسلامي على أثر فتح مكة، وحاولت بعض القبائل أن تقاوم، فهزمت شر هزيمة.
وهنالك بلغ محمد أوج مجده، فعزم على غزو سورية التي كان يعتقد أن أصحابها الروم يهددون حدوده.
واستطاع محمد أن يجمع جيشاً مؤلفاً من ثلاثين ألف مقاتل، ووجد عشرة آلاف فارس بين هؤلاء المقاتلين، ولما وصل إلى تبوك الواقعة في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق علم أن الروم أقلعوا عن غرضهم، فلم يتابع سيره، ولم يخل زحفه هذا من فائدة، إذ نتج عنه أن خضع للنبي أمراء البلاد العربية المجاورة لمصر وسورية.
ورغب محمد في زيادة نفوذه حتى قبل فتح مكة، فأرسل كتباً إلى جميع الجهات، وإلى أقوى ملوك الأرض أيضاً، يدعو فيها إلى الإسلام، وساق إلى ملك غسان الذي كان من عمال ملوك الروم جيشاً صغيراً لم يكتب له غير الفرار، وكانت هذه الغزوة، وهي الوحيدة التي وقعت خارج جزيرة العرب في أثناء حياته، ذات نفع، فلم يلبث العرب الذين وكل إليهم أمر حفظ الحدود أن انحازوا إلى النبي حين أخر هرقل عنهم رواتبهم.
ولم تثمر كتب محمد إلى الملوك، وقد قص التاريخ علينا أن رسول محمد وصل إلى كسرى حين كان السفراء يمضون معاهدة السلم بين كسرى وهرقل، وأنه عندما ألقي كتاب محمد إلى كسرى، ورأى فيه اسم محمد قبل اسمه ووجد، وهو ملك الملوك، أن هذا يتضمن أفضلية محمد عليه -وفق رأي الشرقيين- مزق الكتاب غاضباً قبل أن يقرأه، وداسه تحت قدميه، وقال:«يكاتبني بهذا وهو عبدي» ، وأن النبي لما بلغه ذلك قال:«مزق الله ملكه كما مزق كتابي» .
وقد قبلت دعوة النبي، فمق خلفاؤه ملك كسرى كل ممزق من فورهم.
ولم يكتف كسرى بتمزيق كتاب محمد، بل بعث إلى عامله باليمن، «أن أبعث إلي هذا الرجل الذي يزعم في الحجاز أنه نبي» ، ولكن ابن كسرى قتل أباه هذا قبل أن يقوم عامل اليمن بتنفيذ ذلك الأمر الصعب.
ومضى على الهجرة عشر سنين، فخرج النبي حاجاً إلى مكة، وكان هذا آخر حج قام به، قال أبو الفداء: «ثم رجع إلى المدينة، وبدأ به مرضه وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحارث، فجمع نساءه
واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن، فأذن له في أن يمرض في بيت عائشة، فانتقل إليه.»
وشعر محمد بدنو أجله، وأراد أن يودع قومه فجمعهم وشكر لله توفيقه لإكمال رسالته، ثم قال:«أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قبلي؛ فإنها ليست من شأني.»
فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال:«ألا إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة» ، ثم صلى على الذين قاتلوا معه، ثم أعيد إلى بيت عائشة.
شكل 1 - 3: الوضوء من بئر زمزم المقدسة في موسم الحج بمكة (من صورة فوتوغرافية).
وأراد محمد، قبل وفاته بثلاثة أيام، أن ينقل إلى المسجد ليصلي، ولم يحتمل محمد هذا النقل، فأمر بأن يقوم أبو بكر مقامه، فعد المسلمون هذا دليلاً على أن الخلافة لأبي بكر بعد النبي.
وتوفي محمد بعد مرض دام خمسة عشر يوماً، وكانت وفاته في السنة الحادية عشرة من الهجرة حين كان عمره ثلاثاً وستين سنة.
وكانت جزيرة العرب، حتى عمان، قد صبأت قبل وفاة محمد إلى الإسلام، وقد رضي بالإسلام مشركو العرب ومسيحيوهم ويهودهم، وأصبحوا بذلك أمة واحدة ألهبتها المعتقدات الجديدة، وغدت مستعدة لفتح العالم بعد زمن قليل بقيادة زعمائها الماهرين.