الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
العرب قبل ظهور محمد
(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد
رأي الكثيرون أنه لا تاريخ للعرب قبل ظهور محمد، وحجتهم في ذلك أن العرب قبل ظهور محمد، إذ كانوا مؤلفين من قبائل متنقلة عاطلة من العنعنات، كانوا من الأجلاف الذين لم تع ذاكرة الإنسان شيئاً عنهم.
وإلى مثل هذا الرأي ذهب بعض الأذكياء المعاصرين، ومنهم مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير، رينان، الذي قال:«لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمةً فاتحةً مبدعةً، ولم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الأولى من الميلاد حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد» .
وعندنا أن هذا الرأي فاسدٌ أول وهلة، ولو لم نعلم شيئاً عن ماضي العرب، فإن أمكن ظهور حضارة أمةٍ ولغتها بغتةً على مسرح التاريخ لا يكون هذا إلا نتيجة تضجٍ بطيء، فلا يتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات إلا بالتدريج، ولا تبلغ درجة التطور العالية التي تبدو للعيان إلا بعد الصمود في درجات أخرى.
وإذا ما ظهرت أمة ذات حضارة راقية على مسرح التاريخ قلنا إن هذه الحضارة ثمرة ماض طويل، ولا يعني جهلنا لهذا الماضي الطويل عدم وجوده، وتؤدي مباحث العلم في الغالب إلى عرض هذا الماضي للناظرين.
ولم يكن أمر حضارة العرب قبل ظهور محمد غير ذلك، وإن عسر علينا أن نقول كيف كانت هذه الحضارة، فقد أثبتت الآثار والوثائق التي بأيدينا وجودها، وأنها لم تكن
-على ما يحتمل- دون حضارة الآشوريين وحضارة البابليين اللتين ظهر شأنهما حديثاً بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين.
ولم ينشأ وهمُ الناس في همجية العرب قبل ظهور محمد عن سكوت التاريخ فقط، بل نشأ، أيضاً، عن عدم التفريق بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب.
والأعراب، قبل محمدٍ وبعده، أجلافٌ كأجلاف الأمم الأخرى الذين لم يكن لهم تاريخ ولا حضارة.
وليس الأعراب غير فرع من فرعي الأرومة العربية، فيوجد بجانبهم العرب المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نثبت وجود حضارةٍ عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب وإن كنا لا نعرف تفاصيلها.
ولم يكن التاريخ صامتاً إزاء ثقافة العرب القديمة صمته إزاء الحضارات الأخرى التي رفع العلم الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور محمد بزمن طويل، ويكفي لتمثلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل ظهور محمد آدابٌ ناضجةٌ ولغةٌ راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجاريةٍ بأرقي أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقل من مائة سنة أن يقيموا حضارةً من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ.
والحق أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفواً، وهي تتخذ دليلاً على ماضٍ طويل، وينشأ عن اتصال أمةٍ بأرقى الأمم اقتباسها لما عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلاً لذلك.
وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب، الذين استطاعوا في أقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافةٍ سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأستراليين، أنشأ خلفاء محمد تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مراكز للعلوم والآداب والفنون في آسية وأوربة.
أجل، استطاعت أممٌ كثيرة غير العرب أن تهدم دولاً عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلهم أن تبدع حضارة؛ لما لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة، الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهودٍ عظيمة دامت