الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) نُظُم العرب الاجتماعية
خَصَّصتُ مطالبَ كثيرةً من هذا الكتاب للبحث في أهم نظم العرب الاجتماعية كنظام الأسرة والرق وتعدد الزوجات
…
إلخ، فأقتصر هنا على بيان أهمِّ ما جاء في القرآن من الأحكام الاشتراعية.
واختلطَ شرعُ العرب المدنيُّ بشرعهم الديني اختلاطاً وثيقاً، وتألف منهما علمٌ قائم على تفسير القرآن.
وما كان القرآن ليُبْصِرَ جميع ما يحدث في كل يوم، وهو لم يستدرك غير القليل من ذلك، وكان الناس منذ البُداءة يرجعون مضطرين إلى النبي وخلفائه من بعده لحل المُعضلات الشرعية اليومية، فتألف مما رُوي من أحكامهم المجموعة منذ القرون الأولى من الهجرة ما سُمِّي بالسُّنَّة.
ثم ظَهَرَ بعد زمنٍ قصير أن القرآن والحديث غيرُ كافِيَيْن، ورُئيَ إتمامُهما بوضع دستور مدني وديني مُشتق من تفسير القرآن، وقامت بذلك جماعة كبيرة من الأئمة في القرن الأول والقرن الثاني من الهجرة، واعتُرِف بأربعة منهم، وهم: أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل؛ وإلى هؤلاء تُنسب المذاهب الأربعة التي يقتدي بها مختلف شعوب الإسلام، فأما المذهبُ المالكي فاتُّبع في إفريقية، وأما المذهب الحنفي فاتُّبع في تركية والهند، وأما المذهب الشافعي فاتُّبع في مصر وجزيرة العرب مع عمل المحاكم المصرية
بالمذهب الحنفي، وأما المذهب الحنبلي فمهجورٌ في أيامنا (! )
ثم صار لكل واحد من هذه المذاهب الأربعة كثيرٌ من الشُّراح، ومن ذلك أن كان خليلٌ، المتوفى سنة 1422 م، شارحاً للمذهب المالكي المنتشر في بلاد الجزائر، فعد كتابه الذي تُرجم إلى الفرنسية مرتين، إحداهما بقلم الدكتور بيرون والثانية بقلم مسيو سِغْنِت، أهمَّ رسالة في الفقه المالكي.
وإذا عَدَوْتَ هذه المصادر في علم الكلام الإسلامي وفي الفقه الإسلامي وجدتَ للأحوال التي لا تجد لها قاعدةً مقررة، والتي لا يمكن القياس في أمرها، مجموعةَ أحكامٍ سلطانية تُعرف بالفتاوى.
وتَجد بجانب الدساتير المدونة فقهاً قائماً على العادة مختلفاً باختلاف الأمكنة فدل هذا على أن الفقه الإسلامي غيرُ مقيد بالقرآن خلافاً لما يُظَنُّ أول وهلة، وقد يكون للعادات من الفعل ما ليس للقانون المدوَّن، ومن هذا نَسْخُ القبائل البربرية لما جاء في القرآن من
الأحكام في حقوق النساء في الميراث، ومن هذا أنك لا ترى عند قبائل اليمن سوى فقه قائم على العادات متغيِّر بتغير هذه القبائل مختلفٍ عن تعاليم النبيِّ غالباً. قال الرحالة مسيو هاليفي الذي ساح في اليمن حديثاً:«إن لكل قبيلة اشتراعاً خاصاً.»
شكل 3 - 3: إناء عربي قديم مصنوع من النحاس.
والعقوباتُ تستند إلى القرآن وتفاسير القرآن أيضاً، أي تقوم على مبدأ القِصاص كما قامت عليه شريعة موسى، ومبدأ القصاص هذا هو المبدأ الممكن في جميع الشرائع الفطرية كما قلنا، ومما بيَّنَّاه في كتابنا السابق أن حق المجازاة كان في البُداءة خاصاً بالمعتدَى عليه، وأن الجزاء كان يُفرَض على المذنب أو على أسُرته ما كانت الأسرة وَحْدَةً في جميع المجتمعات القديمة، وأن الثأر إذا لم يُدرَك من الوالد أدُرِك من ابنه أو حفيده ما نَصَّت التوراة على أن الرب ينتقم من الأبناء حتى الجيلِ الثالث والجيل الرابع لذنبٍ اقترفه الأب.
ومن فوائد القصاص أنه يُقلِّل حوادث القتل كثيراً، ومن محاذيره أنه يؤدي إلى استمرار أعمال الثأر زمناً طويلاً غالباً، ولذا رُئي أن تقوم الدِّية التي تُدفع إلى أهل المقتول مقامه أحياناً، ولذا دام هذا النظام إلى أن جاء الوقت الذي صار المجتمع يقوم فيه بمعاقبة المذنب بدلاً من أن يقوم بها المعتدَى عليه أو أسرتُه، ولكن هذا الطور الجزائيَّ
الأخيرَ لا يكون في غير المجتمعات التي يقوم فيها نظام مركزي قوي، ونظام مركزي مثل هذا إذ لم يقم أيام محمد ظل نظام العقوبات الذي نَص عليه القرآن مستنداً إلى مبدأ القصاص ومبدأ الدية الفطريين، وبقِي أمره سائداً ما خَضَع للدستور الديني بشكله القديم.
ومن ثمَّ تَرى أن ما جاء في شريعة موسى من حق القصاص القائل: إن العين بالعين والسن بالسن هو، مع مبدأ الدية الذي جاء مُلطِّفاً له، مبدأ الفقه الجزائي الأساسي في القرآن، ومع ذلك فقد أوصى القرآن بالعفو على أنه خير من الثأر، ونَعُدُّ هذا تقدماً عظيماً ما عد الإنسان في الأدوار الفطرية عدم الانتقام عاراً، وإليك مبادئ القرآن الأساسية في الجرائم وما يقابلها من العقوبات:
(من سورة النحل)
(من سورة البقرة)
{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}
(من سورة المائدة)
(من سورة المائدة)
والمفسرون نصوا على أحكام الدية، فإذا وقع القتل عمداً كان القصاص جزاء القاتل، ما لم يَقْبَل أهل القتيل الدية.
وإذا وقع القتل خطأ كانت الدية مائة جَمَل، ولا تُرَدُّ الدية، ويختلف التعويض في حالة الجروح باختلاف أهمِيَّتها.
وأهل القاتل أو أفراد أسرته هم الذين يؤدون الدية، وإذا كان القاتل مجهولاً دفعتها الزُّمرة التي ينتسب القاتل إليها، ومن هنا تُبصِر مقدار التضامن بين عرب الأسرة الواحدة أو الزمرة الواحدة.
شكل 3 - 4: قفل عربي.
وجرائم القتل والجَرْح وحدها هي التي يُمكن العِوَضُ منها كما جاء في القرآن وفي أكثر الشرائع القديمة، وأما العقوبات التي تُفرَض على السارقين وقُطَّاع الطرق فمتنوعةٌ، فتُقْطَع يد السارق اليُمنى في المرة الأولى مثلاً، ثم تُقطع رجلُه اليسرى في المرة الثانية، والحبسُ أو البتر أو القتل جزاء قُطَّاع الطرق، والرَّجم جزاء الزُّناة والزَّوَاني من الأزواج على أن يَثْبُت الزنا بشهادة أربعة شهود أو بإقرار المذنب، والحد الذي يقام على شارب الخمر، أو الذي كان يُقام عليه فيما مضى، أربعون جَلْدَةٍ.
وأحكام الحقوق المدنية كثيرة إلى الغاية في كتب الفقه التي ألمعنا إليها آنفاً، وما نذكره عن حقوق التملك والميراث
…
إلخ، يَكْفي لتَنَوُّر أقسامها المهمة.
ليس في القرآن غيرُ الإجمال لحقِّ التملك، ولكن المفسرين أحسنوا ترتيبه.
وبالغ العرب في احترام حق التملك، حتى ما كان منه خاصاً بالمغلوبين، ومن ذلك أن الأراضي التي أخُذت من المغلوبين بالفتح أعيدت إليهم على أن يؤدوا خَرَاجاً قلما يزيد على خُمْس محصولاتها.
ويؤدي إحياء الموات عند العرب إلى حق التملك، فالعرب يَرَون أن إحياء المَوَات يتضمَّن منح الأرض قيمة، ومن ثَمَّ يتضمن حقاً لتملكها.
وأكثر المفسرين من غير القائلين بمبدأ مرور الزمن، وحق الادعاء عندهم لا يسقط بمرور الزمن، ومع ذلك فإن من أحكام المذهب المالكي أن مدة مرور الزمن عشر سنين بين الغرباء وأربعون سنةً بين الأقارب.
شكل 3 - 5: صندوق السلطان قلاوون (من تصوير بريس الأفيني).
ولا يستطيع الأجنبي أن يتملك أرضاً أو يشتري عبداً في دار الإسلام، ولكن كلمة الأجنبي لا تشتمل على غير الكافرين، أي ليس المسلمون أجانب في نظر بعضهم إلى بعض مهما اختلفت الشعوب التي ينتسبون إليها، ولا فرق في دار الإسلام بين الصيني المسلم والعربي المسلم في التمتع بجميع الحقوق، وبهذا تختلف الحقوق الإسلامية عن الحقوق الأوربية اختلافاً أساسياً.
وتعد مبادئ المواريث التي نَص عليها القرآن بالغة العدل والإنصاف، ويمكن القارئ أن يدرك هذا من الآيات التي أنقلها منه، ولم يُبْصَر في القرآن جميع الأحوال التي عالجها المفسرون فيما بعد وإن أشير فيه بدرجة الكفاية إلى روحها العامة، ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنكليزية أن الشريعة الإسلامية مَنَحَت الزوجات، اللائي يُزعَم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف، حقوقاً في المواريث لا تَجِدُ مثلَها في قوانيننا.
جاء في القرآن:
(من سورة البقرة)
(من سورة النساء)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
(من سورة النساء)
شكل 3 - 6: حجر عربي منقوش (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في القاهرة).
(من سورة البقرة)
ونظام القضاء والمرافعات عند المسلمين بسيط إلى الغاية، أي أنه يقوم بالقضاء قاضٍ منفرد معيَّنٌ من قبل وليِّ الأمر، ولا تُستأنف أحكام القاضي، ويَحضر الخصوم أمام القاضي بدعوة، ويترافعون إليه مشافهة، ويَعرِضون عليه بَيِّنَاتِهم التي قد تكون قائمة
على الإقرار أو الشهادة أو التحليف، فينطق بالحكم حالاً، وقد أتُيح لي في مراكش أن أشاهد إصدار هذه الأحكام المختصرة، فرأيت القاضي جالساً في الساحة التي هي أمام قصر الوالي، والخصوم والشهود حوله جُثِياً موجِزين قضاياهم، وأحكامُ القاضي تُنَفَّذ فوراً حينما يكون ذلك ممكناً كأن يأمرَ بجَلد المذنب بضع جَلَدات.
أجل، قد لا تَضْمَن تلك الطرق البسيطة العدل كما تضمنه طرقنا الأوربية المعقدة، ولكنها لا تُضِيع وقت المتقاضين الثمين على كلِّ حال، ولا تُثقلهم بالنفقات القضائية التي تُدفَع عادة في العالم المتمدن فتُخرِّب بيوتهم غالباً.
وتكون أحكام أولئك القضاة عادلة على العموم مع بساطة تلك الطرق، فروح العدل والإنصاف ناميةٌ كثيراً في العرب، ويرجع نموها فيهم إلى أن العدل أساس الحياة في تلك المجتمعات التي لا تزال على الفطرة، لا إلى أمر القرآن وحده بالعدل على أن العدل من أحسن الفضائل.
ونختم قولنا في نظم العرب الاجتماعية بأن نذكر أن العرب يتَّصفون بروح المساواة المطلقة وَفقًا لنُظُمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعُلن في أوربة قولاً، لا فعلاً، راسخ في طبائع الشرق رسوخاً تاماً، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدِّي، وأنه ليس من الصعب أن ترى في الشرق خادماً زوجاً لابنة سيده، وأن ترى أجُراء منهم قد أصبحوا من الأعيان.
والكتَّاب الأوربيون الذين بحثوا عن بعدٍ في شؤون أولئك الأقوام، وهم الذين لا يعلم الأوربيون من أمورهم سوى القليل، يستخِفُّون بتلك النظم، ويقولون إنها أدنى من نظمِنا كثيراً، ويتمنون قُرب الوقت الذي تستولي فيه أوربة الطامعة على تلك البقاع.
وغير ذلك ما يبديه الباحثون المحققون، وإليك، مثلاً، ما جاء في كتاب ثمين وضعه العالِم المتدين مسيو لُوبْلِه الذي هو ممن أجادوا درس أمور الشرق:
صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة فيما يَمَسُّ رفاهية طبقات العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة التي يسود بها الإسلام بين الغني والفقير والسيد والأجير على العموم، وليس من المبالغة أن يُقال، إذن: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأمر الجوهري.