المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(3) حضارة العرب في إسبانية - حضارة العرب - غوستاف لوبون

[غوستاف لوبون]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المترجم

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولالبيئة والعرق

- ‌الفصل الأولجزيرة العرب

- ‌(1) جغرافية جزيرة العرب:

- ‌(2) إنتاج جزيرة العرب:

- ‌(3) أقسام جزيرة العرب:

- ‌(3 - 1) بلاد الحجر العربية (بطرا):

- ‌(3 - 2) بلاد نجد:

- ‌(3 - 3) بلاد الحجاز:

- ‌(3 - 4) بلاد عسير

- ‌(3 - 5) بلاد اليمن

- ‌(3 - 6) بلاد حضرموت ومهرة وعمان والأحساء

- ‌الفصل الثانيالعرب

- ‌(1) مبدأ العرق كما أقرته العلوم الحديثة

- ‌(2) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق

- ‌(3) منشأ العرب

- ‌(4) تنوع شعوب العرب

- ‌(5) وصف الفوارق بين العرب

- ‌(5 - 1) عرب جزيرة العرب

- ‌(5 - 2) عرب سورية

- ‌(5 - 3) عرب مصر

- ‌(5 - 4) عرب إفريقية

- ‌(5 - 5) عرب إسبانية

- ‌(5 - 6) عرب الصين

- ‌الفصل الثالثالعرب قبل ظهور محمد

- ‌(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد

- ‌(2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد

- ‌(3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد

- ‌(4) أديان جزيرة العرب القديمة

- ‌الباب الثانيمصادر قوة العرب

- ‌الفصل الأولمحمد: نشوء الدولة العربية

- ‌(1) فُتُؤَّة محمد

- ‌(2) رسالة محمد

- ‌(3) محمد بعد الهجرة

- ‌(4) حياة محمد وأخلاقه

- ‌الفصل الثانيالقرآن

- ‌(1) خلاصة القرآن

- ‌(2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم

- ‌الفصل الثالثفتوح العرب

- ‌(1) حال العالم في زمن محمد

- ‌(2) طبيعة فتوح العرب

- ‌(3) خلفاء محمد الأولون

- ‌(4) خلاصة تاريخ العرب

- ‌القرن الثالث من الهجرة:

- ‌القرن الرابع من الهجرة:

- ‌القرن الخامس من الهجرة:

- ‌القرن السادس من الهجرة:

- ‌‌‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌الباب الثالثدولة العرب

- ‌الفصل الأولالعرب في سورية

- ‌(1) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب

- ‌(2) استقرار العرب بسورية

- ‌(3) حضارة سورية أيام سلطان العرب

- ‌(4) المباني التي تركها العرب في سورية

- ‌(4 - 1) جامع عمر

- ‌(4 - 2) المسجد الأقصى

- ‌(4 - 3) المباني العربية الأخرى في القدس

- ‌(4 - 4) برج الرملة العربي

- ‌(4 - 5) مباني العرب في دمشق

- ‌الفصل الثانيالعرب في بغداد

- ‌(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد

- ‌الفصل الثالثالعرب في بلاد فارس والهند

- ‌(1) العرب في بلاد فارس

- ‌(2) العرب في بلاد الهند

- ‌(2 - 1) منارة قطب

- ‌(2 - 2) باب علاء الدين

- ‌(2 - 3) مزار ألتمش

- ‌(2 - 4) معبد بندرابن

- ‌(2 - 5) مزار أكبر في سكندرا

- ‌(2 - 6) تاج محل في أغرا

- ‌(2 - 7) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا

- ‌(2 - 8) المسجد الكبير في دهلي

- ‌(2 - 9) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)

- ‌الفصل الرابعالعرب في مصر

- ‌(1) حال مصر حين الفتح العربي

- ‌واسمع جواب عمرو بن العاص:

- ‌(2) استيلاء العرب على مصر

- ‌(3) حضارة العرب في مصر

- ‌(4) مباني العرب في مصر

- ‌(4 - 1) جامع عمرو بن العاص (21 هـ/642 م)

- ‌(4 - 2) جامع ابن طولون (243 هـ/876 م)

- ‌(4 - 3) الجامع الأزهر (359 هـ/970 م)

- ‌(4 - 4) جامع قلاوون (683 هـ/ 1283 م)

- ‌(4 - 5) جامع السلطان حسن (757 هـ/1356 م)

- ‌(4 - 6) جامع برقوق (784 هـ/1384 م)

- ‌(4 - 7) جامع المؤيد (818 هـ/1415 م)

- ‌(4 - 8) جامع قايتباي (872 هـ/ 1468 م)

- ‌(4 - 9) المساجد التركية في القاهرة

- ‌(4 - 10) الآثار العربية الأخرى في القاهرة

- ‌الفصل الخامسالعرب في إفريقية الشمالية

- ‌(1) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي

- ‌(2) استقرار العرب بإفريقية

- ‌(3) مباني العرب في شمال إفريقية

- ‌(3 - 1) جامع القيروان

- ‌(3 - 2) مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان

- ‌(3 - 3) مساجد الجزائر

- ‌(3 - 4) مساجد مراكش

- ‌الفصل السادسالعرب في إسبانية

- ‌(1) إسبانية قبل العرب

- ‌(2) استقرار العرب بإسبانية

- ‌(3) حضارة العرب في إسبانية

- ‌(4) مباني العرب في إسبانية

- ‌(4 - 1) المباني العربية في قرطبة

- ‌(4 - 2) المباني العربية في طليطلة

- ‌(4 - 3) المباني العربية في إشبيلية

- ‌(4 - 4) المباني العربية في غرناطة

- ‌الفصل السابعالعرب في صقلية وإيطالية وفرنسة

- ‌(1) العرب في صقلية وإيطالية

- ‌(2) حضارة العرب في صقلية

- ‌(3) غزو العرب لفرنسة

- ‌الفصل الثامناصطراع النصرانية والإسلامالحروب الصليبية

- ‌(1) منشأ الحروب الصليبية

- ‌(2) خلاصة الحروب الصليبية

- ‌(3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق

- ‌الباب الرابعطبائع العرب ونظمهم

- ‌الفصل الأولأهل البدو وأهل الأرياف من العرب

- ‌(1) تمثل حياة قدماء العرب

- ‌(2) حياة أهل البدو من العرب

- ‌(3) حياة أهل الأرياف من العرب

- ‌(3 - 1) الحياة الاجتماعية

- ‌(3 - 2) المساكن

- ‌(3 - 3) الطعام

- ‌(3 - 4) الأزياء

- ‌الفصل الثانيعرب المدن: طبائعهم وعاداتهم

- ‌(1) المجتمع العربي

- ‌(2) المدن العربية، البيوت، الأسواق…إلخ

- ‌(2 - 1) المدن العربية

- ‌(2 - 2) المساكن

- ‌(2 - 3) الأسواق

- ‌(3) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن

- ‌(3 - 1) الولادة والختان

- ‌(3 - 2) الزواج

- ‌(3 - 3) المآتم

- ‌(4) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش)

- ‌(4 - 1) الحمَّامات

- ‌(4 - 2) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش

- ‌(5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون…إلخ

- ‌الفصل الثالثنظُم العرب السياسية والاجتماعية

- ‌(1) مصدر نظم العرب

- ‌(2) نُظُم العرب الاجتماعية

- ‌(3) نظم العرب السياسية

- ‌الفصل الرابعالمرأة في الشرق

- ‌(1) أسباب تعدد الزوجات في الشرق

- ‌(2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

- ‌(3) الزواج عند العرب

- ‌(4) الحريم في الشرق

- ‌الفصل الخامسالدينُ والأخلاق

- ‌(1) تأثير الدين في المسلمين

- ‌(2) الطقوس الدينية في الإسلام

- ‌(2 - 1) الفِرَق الإسلامية

- ‌(2 - 2) المباني الدينية

- ‌(3) الأخلاق في الإسلام

- ‌الباب الخامسحضارة العرب

- ‌الفصل الأولمصادر معارف العرب: تعليمهمومناهجهم

- ‌(1) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية

- ‌(2) مناهج العرب العلمية

- ‌الفصل الثانياللغة والفلسفة والآداب والتاريخ

- ‌(1) اللغة العربية

- ‌(2) فلسفة العرب

- ‌(3) الأدبُ العربيُّ

- ‌(3 - 1) الشعر عند العرب

- ‌(3 - 2) الروايات والأقاصيص

- ‌(3 - 3) الحكايات والأمثال

- ‌(3 - 4) التاريخ

- ‌(3 - 5) البيان والبلاغة

- ‌الفصل الثالثالرياضيات وعلم الفلك

- ‌(1) الرياضيات

- ‌(2) علم الفلك عند العرب

- ‌الفصل الرابعالعلوم الجغرافية

- ‌(1) ريادات العرب الجغرافية

- ‌(2) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية

- ‌الفصل الخامسالفيزياء وتطبيقاتها

- ‌(1) الفيزياء والميكانيكا

- ‌(2) الكيمياء

- ‌(3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات

- ‌(3 - 1) (المعارف الصناعية)

- ‌بارود الحرب والأسلحة النارية

- ‌الوِراقة

- ‌استخدام البوصلة في الملاحة

- ‌الفصل السادسالعلوم الطبيعية والطِّبية

- ‌(1) العلوم الطبيعية

- ‌(2) العلوم الطبية

- ‌(2 - 1) آثار العرب الطبية

- ‌علم الصحة عند العرب

- ‌تقدُّم العرب في الطب

- ‌الفصل السابعالفنون العربيةالرسم والحفر والفنون الصناعية

- ‌(1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار

- ‌(2) مصادر الفنون العربية:

- ‌(3) الجمال في فنون العرب:

- ‌(4) الفنون الصناعية العربية:

- ‌(4 - 1) التصوير:

- ‌(4 - 2) صنع التماثيل:

- ‌(4 - 3) صناعة المعادن والحجارة الثمينة:

- ‌(4 - 4) النقود والأوسمة:

- ‌(4 - 5) المصنوعات الخشبية:

- ‌(4 - 6) الفسيفساء:

- ‌(4 - 7) صناعة الزجاج:

- ‌(4 - 8) الصناعة الخزفية:

- ‌(4 - 9) المنسوجات والبسط والزرابي:

- ‌الفصل الثامنفن عمارة العرب

- ‌(1) معرفتنا الحاضرة لفن عمارة العرب

- ‌(2) عناصر فن عمارة العرب المميزة:

- ‌(3) المقابلة بين مباني العرب الفنية:

- ‌(3 - 1) مباني بلاد سورية:

- ‌(3 - 2) مباني بلاد مصر:

- ‌(3 - 3) مباني بلاد إفريقية الشمالية:

- ‌(3 - 4) مباني بلاد صقلية:

- ‌(3 - 5) مباني بلاد الأندلس:

- ‌(3 - 6) مباني بلاد الهند:

- ‌(3 - 7) مباني بلاد فارس:

- ‌ ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة:

- ‌(أ) الطراز العربي قبل ظهور محمد:

- ‌(ب) الطراز البيزنطي العربي:

- ‌(ج) الطراز العربي الخالص:

- ‌(د) الطراز العربي المختلط:

- ‌الفصل التاسعتجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم

- ‌(1) صلات العرب بالهند:

- ‌(2) صلات العرب بالصين:

- ‌(3) صلات العرب بإفريقية:

- ‌الفصل العاشرتمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب

- ‌(1) تأثير العرب في الشرق:

- ‌(2) تأثير العرب في الغرب:

- ‌(2 - 1) تأثير العرب العلمي والأدبي:

- ‌(2 - 2) تأثير العربي في فن العمارة

- ‌(2 - 3) تأثير العرب في الطبائع:

- ‌الباب السادسانحطاط حضارة العرب

- ‌الفصل الأولورثة العربتأثير الأوربيين في الشرق

- ‌(1) ورثة العرب في الأندلس:

- ‌(2) ورثة العرب في مصر والشرق:

- ‌(3) ورثة العرب في الهند:

- ‌(4) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم

- ‌الفصل الثانيأسباب عظمة العرب وانحطاطهمحالُ الإسلام الحاضرة

- ‌(1) أسباب عظمة العرب

- ‌(2) أسباب انحطاط العرب

- ‌(3) مقام العرب في التاريخ:

- ‌(4) حال الإسلام الحاضرة:

الفصل: ‌(3) حضارة العرب في إسبانية

وها هي ذي عدة قرون مضت على ذلك الدور من غير أن تستطيع إسبانية أن تنهض من هبوطها مع ما بذل من الجهود، وقد صار عدد سكان طليطلة في الوقت الحاضر 17000 بعد أن كان 200000 أيام الحكم العربي، وقد أصبح عدد سكان قرطبة في الوقت الحاضر 42000 بعد أن كان مليوناً أيام الحكم العربي؛ ولم يبق من مدن ولاية شلمنقة، التي كان عددها أيام الحكم العربي 125 مدينة، سوى 13 مدينة.

وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في وارثي العرب مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنت قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يبد في قطر ملكوه كما بدا في إسبانية التي لم تكن ذات حضارة ذكر قبل الفتح العربي؛ فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثال بارز على ما يمكن أن يتفق لعرق من التأثير.

(3) حضارة العرب في إسبانية

كانت إسبانية النصرانية ذات رخاء قليل وثقافة لا تلائم غير الأجلاف في زمن ملوك القوط، ولم يكد العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمناً طويلاً.

وأخذت حضارة العرب تنهض منذ ارتقاء عبد الرحمن إلى العرش على الخصوص، أي منذ انفصال إسبانية عن المشرق بإعلان خلافة قرطبة في سنة 756 م، فغدت قرطبة، بالحقيقة، أرقي مدن العالم القديم مدة ثلاثة قرون.

ولم يكد عبد الرحمن يقبض على زمام الحكم في إسبانية حتى أخذ يسعى في حمل العرب على عد إسبانية وطناً حقيقياً لهم، فأنشأ جامع قرطبة الشهير الذي هو من عجائب الدنيا؛ لتحويل أنظار العرب عن مكة، وصار ينفق دخل بيت المال في إصلاح البلاد وعمرانها بدلاً من إنفاقه في الغزوات البعيدة، ثم سار خلفاؤه على سنته في ذلك.

وامتازت حضارة العرب في إسبانية في ذلك الدور بميل العرب الشديد إلى الفنون والآداب والعلوم على الخصوص، وأنشأ العرب في كل ناحية مدارس ومكتبات ومختبرات،

ص: 287

شكل 6 - 8: داخل ردهة في القصر بإشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

وترجموا كتب اليونان، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيماوية والطبية بنجاح، وسنرى في فصول أخرى أهمية اكتشافاتهم في هذه العلوم المختلفة.

ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة ومصانع النسائج والجلود والسكر إلى إفريقية والشرق بواسطة تجار من اليهود والبربر.

وبرع العرب في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في إسبانية الحاضرة من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخل العرب إلى حقول الأندلس الخصبة زراعة قصب السكر والتوت والأرز والقطن والموز

إلخ، وأصبحت إسبانية، التي هي صحراء حقيقية في الوقت الحاضر، عدا بعض أقسام في جنوبها، جنة واسعة بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية.

ووجه العرب نشاطهم إلى كل فرع من فروع العلوم والصناعة والفنون، ولم تقل أشغالهم العامة عن أشغال الرومان أهمية، فأكثروا من إنشاء الطرق والجسور والفنادق والمشافي والمساجد في كل مكان.

ص: 288

وظن رئيس الأساقفة الإسباني أكزيمينيس أنه، بإحراقه مؤخراً ما قدر على جمعه من مخطوطات أعداء دينه العرب (أي ثمانين ألف كتاب)، محا ذكرهم من صفحات التاريخ إلى الأبد، وما درى أن ما تركه العرب من الآثار التي تملأ بلاد إسبانية، خلا مؤلفاتهم، يكفي لتخليد اسمهم إلى الأبد.

وكانت عاصمة الخلافة، قرطبة، داراً للعلوم والفنون والصناعة والتجارة، وتستطيع أن تقابلها بعواصم دول أوربة العظمي الحديثة، وهي على خلاف قرطبة الحاضرة التي أضحت مقراً للأموات، ومن المؤلم أن كنت أسير عدة ساعات في هذه المدينة الواسعة، التي كان يقم بها مليون شخص، قبل أن أصادف ماراً نشيطاً

شكل 6 - 9: داخل ردهة في منصر بإشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

أجل، كان من النصر العظيم أن أحل النصارى الصليب محل الهلال في قرطبة، ولكن الهلال كان يهيمن على أغنى مدن العالم وأجملها وأكثرها أهلاً، فيشرف الصليب اليوم على بقايا تلك الحضارة القويمة التي قوضها عباده من غير أن يقيموا حضارة أخرى مقامها.

وكان نظام الحكم العربي في إسبانية مشابهاً لنظام الحكم الذي تكلمنا عنه في فصل «العرب في بغداد» أي كان الخليفة، وهو وكيل الله في الأرض، حاكماً مطلقاً جامعاً

ص: 289

لجميع السلطات المدنية والدينية والحربية مع اختياره مجلساً لإسداء النصح إليه في جميع أمور الدولة.

وكان يقوم بحكم الولايات ولاة ينصبهم الخليفة جامعون لمثل سلطاته كلها.

وكان قانون الدولة المدني يستند في نصوصه إلى القرآن وتفسير القرآن، كما نوضح ذلك في فصل آخر؛ فيتخذ القضاة القرآن دستوراً في أحكامهم، وكانت المحاكم على درجتين؛ فتقوم محاكم الدرجة الثانية (الاستئناف) بإصلاح ما تصدره محاكم الدرجة الأولى من الأحكام.

وكان الخليفة، كملوك ذلك العصر، غير ذي جيش دائم، وكانت الكتيبة الوحيدة المسلحة على الدوام مؤلفة من حرس ولي الأمر الشخصي الذي يبلغ عدده عشرة رجال أو اثني عشر رجلاً، وإن كان يستطيع أن يجند كل شخص قادر على حمل السلاح من أبناء الدولة.

وكانت البحرية قوية جداً، وكانت تتم بفضلها صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربية وآسية وإفريقية، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمناً طويلاً.

وكان دخل بيت المال يقوم على الضرائب والمناجم، كما في بغداد، وكانت مناجم الفضة والذهب والزئبق غنية في ذلك الزمن، وكانت الضرائب تتألف من العشر العيني لمحاصيل أراضي المسلمين، ومن الجزية التي يعطيها النصارى واليهود، ومن الجمارك والمكوس، فبلغ دخل دولة الخلافة في إسبانية ثلاثمائة مليون في إبان عظمتها، أي في عهد الحكم الثاني.

وقلنا: إن الإمامة الثقافية كانت للعرب في البلاد، وأما العوام فكانوا من البربر، ومن سكان البلاد القدماء على الخصوص، وكان باب المناصب مفتوحاً للنصارى، وكان النصارى يستخدمون في الجيش غالباً، ولم يكن توالد المسلمين والنصارى غير قليل، وكانت أم الخليفة عبد الرحمن الثالث نصرانية.

واستطاع العرب أن يحولوا إسبانية مادياً وثقافيا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية، ولم يقتصر تحويل العرب الإسبانية على هذين الأمرين؛ بل أثروا في أخلاق الناس أيضاً، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها، التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حلم عرب إسبانية نحو الأهلين المغلوبين مبلغاً كانوا يسمحون به لأساقفهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر إشبيلية النصراني، الذي عقد في سنة 782 م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد

ص: 290

في سنة 852 م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي توها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب المعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم.

شكل 6 - 10: بهو ملوك المغاربة في القصر بإشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

وأسلم كثير من النصارى، ولكنهم لم يسلموا طمعاً في كبير شيء، وهم الذين استعربوا فغدوا هم واليهود مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة، وكانت إسبانية العربية بلد أوربة الوحيد الذي تمتع اليهود فيه بحماية الدولة ورعايتها، فصار عددهم فيه كثيراً جداً.

وكان عرب إسبانية يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظم، وكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم

وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخراً، فتؤثر في نفوس الناس تأثيراً لا تؤثره الديانة.

ص: 291

وللفروسية العربية شروطها كما للفروسية الأوربية التي ظهرت بعدها، فلم يكن المرء ليصير فارساً إلا إذا تحلى بهذه الخصال العشر:«الصلاح، والكرامة، ورقة الشمائل، والقريحة الشعرية، والفصاحة، والقوة، والمهارة في ركوب الخيل، والقدرة على استعمال السيف، والرمح، والنشاب.»

ونرى تاريخ العرب في إسبانية حافلاً بالأنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخصال، ومن ذلك أن والي قرطبة لما حاصر، في سنة 1139 م مدينة طيطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه الملكة بيرنجر التي كانت فيها من بلغه أنه لا يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة، فارتد القائد العربي من فوره محيياً الملكة.

وذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى، ولكن ببطء، ويمكننا أن نتمثل ما كانت عليه الفروسية النصرانية في القرن الحادي عشر عند النظر إلى أمر السيد الكنبيطور رودريك الفيفاري.

لم يكن هذا البطل الشهير الذي تغنى به الشعراء كثيراً سوى رئيس عصابة بالحقيقة، أي كان محل مزايدة، فيبيع نفسه من العرب تارة ويبيعها من النصارى تارة أخرى، ومما حدث أن دخل مدينة بلنسية صلحاً فلم يحجم عن شيء حاكمها الهرم على النار؛ ليكرهه على كشف ما كان يظن وجوده في القصر من الكنوز.

قال مسيو فياردو: إن ذلك الفارس الشهير الذي يثير اسمه ذكريات البطولة هو البطل الشعبي الذي اقتحم المخاطر والأهوال أكثر مما اقتحمه هركول وثيزه وقدماء أنصاف الآلهة مجتمعين.

بيد أنه، وإن كان من المؤلم تجريد اسم عظيم من بعض ما أسبغته القرون عليه، لم يوضع التاريخ ليؤيد بأحكامه أقاصيص الأدباء وخيالات الشعراء.

لم ير رودريك، أو روي دييز الفيفاري، غير صفات الجندي، أي كان رئيس عصابة من المرتزقة قاسياً جشعاً حقوداً شديداً في قوله وعمله كثير الجلف مستخفاً بالعدل والإنصاف.

وكان نصارى أرغونة أول من أعمل السلاح فيهم لحساب المسلمين الذين منحوه لقب «السيد» فعرف به، ثم باع سيفه من شانشه القوي؛ ليساعده على تجريد ما لإخوته وأخواته من المقاطعات، ثم حالف هذا وذاك محالفة الغادرين، ولم يبال بعهد الأمان الذي قطعه لمدينة ساغونتة ومدينة بلنسية؛ فأطعم الكلاب بعض الأسرى، ونكل ببعضهم، وحرق بعضاً آخر منهم إكراهاً لهم على كشف كنوزهم.

ص: 292

شكل 6 - 11: برج لاجيرالده (برج لعبة الهواء) في إشبيلية (من تصوير جيرول دوبرانجه).

«حقاً إنه أطفأ ما تم له من مجد النصر بما قام به من أعمال الختر والخسة والإجرام، وإني أحيل القارئ الذي يريد التثبت في مصداق قولي إلى ما قاله مسيو دوزي في مباحثه عن تاريخ عرب إسبانية السياسي والأدبي في القرون الوسطى.»

وليس من الإنصاف أن نقسو على السيد الذي لم يعمل بغير ما كانت تبيحه طبائع زمنه، ولكن من الواجب أن نشير إلى تلك الطبائع؛ ليتجلى لنا مقدار ما أسدت به الأمة التي عملت على زوال تلك الطبائع من خدمة عظيمة بتأثير تعاليمها التي لا مؤيد لها سوى الرأي.

ص: 293

شكل 6 - 12: محراب مسجد قصر الحمراء (من تصوير جونس).

ويقولون: إن الدين يهذب الطبائع، وأذهب إلى هذا الرأي أحياناً وإن لم يكن في التاريخ سوى أدلة قليلة على ذلك، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن قواعد الفروسية التي جاء بها العرب أدت إلى إصلاح تلك الطبائع أكثر من جميع التعاليم الدينية.

نعم، إن إحراق السيد شيخاً ليسلب ماله يبديه لنا وحشاً، غير أن طبائع أهل ذلك الزمن كانت تبيح ذلك، وأن كل أمير نصراني كان يقترف مثل ذلك.

ومن ذلك أن دعا الطاغية بطره ملك غرناطة، أبا سعيد، إلى قصره فأعجبه ما كان يتحلى به الملك أبو سعيد من الجواهر، فلم ير غير سلبه إياها بقتله غرداً.

ص: 294