الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباحث مثالاً أوضح من هذا التأثير أمة في أمة أخرى، والتاريخ لم يشتمل على ما هو أبرز من هذا المثال.
ومما تقدم ننتهي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى: هي أنه لم يكن للإسلام، ديانةً، تأثيرٌ في آثار العرب العلمية والفلسفية، والثانية: هي أن فضل الشرق في تأثيره في الغرب يعود إلى العرب وحدهم، وأما الشعوب التي حلت محل العرب، وإن اتفق لها شيء من التأثير السياسي أو الديني لم يكن تأثيرها العلمي والأدبي والفلسفي في غير درجة الصفر.
(2 - 2) تأثير العربي في فن العمارة
للعرب، لا ريب، تأثير في فنون أوربة، ولا سيما في فن عمارتها، ولكنه يبدو لي أضعف مما يعتقد على العموم، ولا أرى أن يبحث عنه حيث أريد وجوده، ومن ثم أن يقال: إن الطراز القوطي أخذ عن العرب في القرون الوسطى مثلاً، ومع أنني أوافق، مع كثير من المؤلفين، على أن أوربة اقتبست الأقواس القوطية (أي الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين) من العرب، والعرب قد استعملوها في مصر وصقلية وإيطالية منذ القرن العاشر من الميلاد، تراني لا أقول: إننا مدينون للعرب بطرازنا القوطي؛ لما أرى من الفرق العظيم بين كنائسنا التي أقيمت عليه في القرن الثالث عشر أو القرن الرابع عشر من الميلاد وما بني في أي من هذين القرنين من المساجد، ولأن أقواس الأبواب والنوافذ المصنوعة على رسم البيكارين ليست كل ما في العمارة القوطية التي تتألف من عناصر مختلفة لا تقدر قيمتها إلا بعد البحث في مجموع البناء.
والحق أن الطراز القوطي لم يستند إلى عنصر واحد، فهو مشتقٌ من الطراز الروماني الذي هو وليد الطراز اللاتيني والطراز البيزنطي، وذلك بعد سلسلة من التطورات، والحق أن الطراز القوطي ظهر، بعد أن تم تكوينه، فناً مبتكراً مختلفًا عن فنون العمارة السابقة، فتعد كل كنيسة قوطية أتقن بناؤها من أجمل ما شاد الإنسان من المباني التي لا أستثني منها أكمل الآثار الإغريقية اللاتينية القديمة.
وهنا أقرر أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، وأن لعروق الغرب احتياجات وأذواقاً تختلف عن احتياجات الشرق وأذواقه، وأن بيئات الغرب مباينة لبيئات الشرق، وأن الفنون وليدة احتياجات أحد الأدوار ومشاعره؛ فكان ما نراه من اختلاف فنون الغرب عن فنون الشرق بحكم الضرورة.
شكل 10 - 9: دقائق زخارف في كنيسة الترانسيتو بطليطلة (طراز إسرائيل عربي).
وإنني، على ما قررت من عدم المشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي بعد أن تكون، لا أنكر أهمية الفروع التي اقتبسها الغربيون من الشرقيين، ولم أنفرد بهذا الاعتراف، بل اعترف بذلك أكثر المؤلفين حجة، واسمع ما قاله باتيسيه:
لا يجوز الشك في أن البنائين الفرنسيين اقتبسوا من الفن الشرقي كثيراً من العناصر المعمارية المهمة والزخارف في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر من الميلاد
…
ألم نجد من كاتدرائية بوي، التي هي من أقدس البنايات
النصرانية، باباً مستوراً بالكتابات العربية؟ أو لم تقم من أربونة وغيرها حصونٌ متوجة وفق الذوق العربي؟
شكل 10 - 10: بعض أقواس في دير الراهبات بشقوبية (طراز إسباني عربي).
وذلك مسيو لونورمان: الذي هو حجة في هذه الموضوعات مثل باتيسيه، أن تأثير العرب واضح في كثير من الكنائس الفرنسية، ككنيسة مدينة ماغلون «1178 م» التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة «كانده مين ولوار» وكنيسة «غاماش» «سوم»
…
إلخ.
وألمع مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوربيون من العرب في فن العمارة، وقال:«أرى من غير مبالغة فيما لأمةٍ من التأثير في أمة، وذلك خلافًا لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات وشرف المآذن والأفاريز أدخلوا إلى فرنسة المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيرًا في العمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى.»
ولم يكن مسيو بريسي الأفيني المتخصص في فن العمارة العربي على غير هذا الرأي، فقد قال:«إن النصارى أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب بكثرةٍ حتى أواخر القرن السادس عشر من الميلاد.»
ولا يغرب عن بالك أن الأوربيين كانوا يستخدمون في القرون الوسطى كثيراً من بنائي الأجانب في إقامة مبانيهم، وأنهم كانوا يوحون إليهم مثلما كان يوحي به العرب
إلى بنائي البيزنطيين، وأن هؤلاء المعماريين كانوا يجيئون من كل مكان، وأن شارلمان كان يأتي بالكثير منهم من الشرق. وقد نقل مسيو ياردو عبارة عن كتاب «تاريخ باريس» لدولور جاء فيها أن مهندسين معماريين من العرب استخدموا في إنشاء كنيسة نورتردام الباريسية: ويتجلى في إسبانية - على الخصوص - تأثير العرب المعماري العظيم الذي غفل عن ذكره العلماء المشار إليهم، وقد ذكرنا في فصل سابق أنه نشأ عن تمازج فنون العرب والنصارى طرازٌ خاصٌ يعرف بالطراز المدجن الذي ازدهر في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد على الخصوص، وترى في الصور التي نشرناها في هذا الفصل أمثلة مهمة لذلك، وما أبراج كثيرٍ من كنائس طليطلة إلا مقتبسةٌ من المآذن، وليست المباني التي شادها النصارى في الولايات المستقلة في العهد الإسلامي إلا عربيةً أكثر منها نصرانيةً، وذلك كقصر شقوبية الشهير الذي نشرت له عدة صور، فتدل إحدى هذه الصور التي التقطناها من رسمٍ قديم على حاله قبل حريق سنة 1862، وتدل الصور الأخرى الفوتوغرافية الأصل على حاله في القوت الحاضر، ولا نجهل أن قصر شقوبية هذا أقيم في القرن الحادي عشر من الميلاد، أي أقيم في أيام السيد بأمر الأذفونش السادس الذي طرده أخوه من ممالكه، والتجأ إلى عرب طليطلة، ودرس قصرهم فيها وعاد إلى ممالكه، وأنشأ قصرًا شبيهًا به، ومما يزيد قصر شقوبية قيمةً إمكان عده مثالاً للقصور العربية المحصنة التي أقيمت في بلاد إسبانية ثم عفا رسمها تقريباً في الوقت الحاضر.
ويلوح لي أن آثاراً كثيرة عدها بعض المؤلفين من المباني القائمة على الطراز القوطي الخالص، كبرج بليم الذي أنشئ بالقرب من أشبونة، ذات مسحة عربية بشكلها العام وأبراجها المطنفة وشرفها وبجزئياتٍ أخرى فيها.
أجل، قد يرى أن تأثير العرب في إسبانية زال تماماً، ولكن بعض المدن الإسبانية، ولا سيما أشبيلية، حافلةٌ بذكريات العرب، ولا تزال بيوتها تبنى على الطراز الإسلامي، وهي لا تختلف عن نماذجها إلا بفقر زخارفها، ولا يزال الرقص والموسيقا فيها على الطريقة العربية، ويشاهَد الدم الشرقي فيها بسهولة كما ذكرت ذلك سابقًا. أجل، يمكن أن تُباد أمةٌ، وأن تحرق كتبها، وأن تُهدم آثارها، ولكنَّ تأثيرها يكون أقوى من القُلُزِّ غالباً، ولا يستطيع الإنسان محوه، ولا تكاد العصور تَقْدِر عليه.