المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) أسباب انحطاط العرب - حضارة العرب - غوستاف لوبون

[غوستاف لوبون]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المترجم

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولالبيئة والعرق

- ‌الفصل الأولجزيرة العرب

- ‌(1) جغرافية جزيرة العرب:

- ‌(2) إنتاج جزيرة العرب:

- ‌(3) أقسام جزيرة العرب:

- ‌(3 - 1) بلاد الحجر العربية (بطرا):

- ‌(3 - 2) بلاد نجد:

- ‌(3 - 3) بلاد الحجاز:

- ‌(3 - 4) بلاد عسير

- ‌(3 - 5) بلاد اليمن

- ‌(3 - 6) بلاد حضرموت ومهرة وعمان والأحساء

- ‌الفصل الثانيالعرب

- ‌(1) مبدأ العرق كما أقرته العلوم الحديثة

- ‌(2) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق

- ‌(3) منشأ العرب

- ‌(4) تنوع شعوب العرب

- ‌(5) وصف الفوارق بين العرب

- ‌(5 - 1) عرب جزيرة العرب

- ‌(5 - 2) عرب سورية

- ‌(5 - 3) عرب مصر

- ‌(5 - 4) عرب إفريقية

- ‌(5 - 5) عرب إسبانية

- ‌(5 - 6) عرب الصين

- ‌الفصل الثالثالعرب قبل ظهور محمد

- ‌(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد

- ‌(2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد

- ‌(3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد

- ‌(4) أديان جزيرة العرب القديمة

- ‌الباب الثانيمصادر قوة العرب

- ‌الفصل الأولمحمد: نشوء الدولة العربية

- ‌(1) فُتُؤَّة محمد

- ‌(2) رسالة محمد

- ‌(3) محمد بعد الهجرة

- ‌(4) حياة محمد وأخلاقه

- ‌الفصل الثانيالقرآن

- ‌(1) خلاصة القرآن

- ‌(2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم

- ‌الفصل الثالثفتوح العرب

- ‌(1) حال العالم في زمن محمد

- ‌(2) طبيعة فتوح العرب

- ‌(3) خلفاء محمد الأولون

- ‌(4) خلاصة تاريخ العرب

- ‌القرن الثالث من الهجرة:

- ‌القرن الرابع من الهجرة:

- ‌القرن الخامس من الهجرة:

- ‌القرن السادس من الهجرة:

- ‌‌‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌الباب الثالثدولة العرب

- ‌الفصل الأولالعرب في سورية

- ‌(1) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب

- ‌(2) استقرار العرب بسورية

- ‌(3) حضارة سورية أيام سلطان العرب

- ‌(4) المباني التي تركها العرب في سورية

- ‌(4 - 1) جامع عمر

- ‌(4 - 2) المسجد الأقصى

- ‌(4 - 3) المباني العربية الأخرى في القدس

- ‌(4 - 4) برج الرملة العربي

- ‌(4 - 5) مباني العرب في دمشق

- ‌الفصل الثانيالعرب في بغداد

- ‌(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد

- ‌الفصل الثالثالعرب في بلاد فارس والهند

- ‌(1) العرب في بلاد فارس

- ‌(2) العرب في بلاد الهند

- ‌(2 - 1) منارة قطب

- ‌(2 - 2) باب علاء الدين

- ‌(2 - 3) مزار ألتمش

- ‌(2 - 4) معبد بندرابن

- ‌(2 - 5) مزار أكبر في سكندرا

- ‌(2 - 6) تاج محل في أغرا

- ‌(2 - 7) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا

- ‌(2 - 8) المسجد الكبير في دهلي

- ‌(2 - 9) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)

- ‌الفصل الرابعالعرب في مصر

- ‌(1) حال مصر حين الفتح العربي

- ‌واسمع جواب عمرو بن العاص:

- ‌(2) استيلاء العرب على مصر

- ‌(3) حضارة العرب في مصر

- ‌(4) مباني العرب في مصر

- ‌(4 - 1) جامع عمرو بن العاص (21 هـ/642 م)

- ‌(4 - 2) جامع ابن طولون (243 هـ/876 م)

- ‌(4 - 3) الجامع الأزهر (359 هـ/970 م)

- ‌(4 - 4) جامع قلاوون (683 هـ/ 1283 م)

- ‌(4 - 5) جامع السلطان حسن (757 هـ/1356 م)

- ‌(4 - 6) جامع برقوق (784 هـ/1384 م)

- ‌(4 - 7) جامع المؤيد (818 هـ/1415 م)

- ‌(4 - 8) جامع قايتباي (872 هـ/ 1468 م)

- ‌(4 - 9) المساجد التركية في القاهرة

- ‌(4 - 10) الآثار العربية الأخرى في القاهرة

- ‌الفصل الخامسالعرب في إفريقية الشمالية

- ‌(1) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي

- ‌(2) استقرار العرب بإفريقية

- ‌(3) مباني العرب في شمال إفريقية

- ‌(3 - 1) جامع القيروان

- ‌(3 - 2) مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان

- ‌(3 - 3) مساجد الجزائر

- ‌(3 - 4) مساجد مراكش

- ‌الفصل السادسالعرب في إسبانية

- ‌(1) إسبانية قبل العرب

- ‌(2) استقرار العرب بإسبانية

- ‌(3) حضارة العرب في إسبانية

- ‌(4) مباني العرب في إسبانية

- ‌(4 - 1) المباني العربية في قرطبة

- ‌(4 - 2) المباني العربية في طليطلة

- ‌(4 - 3) المباني العربية في إشبيلية

- ‌(4 - 4) المباني العربية في غرناطة

- ‌الفصل السابعالعرب في صقلية وإيطالية وفرنسة

- ‌(1) العرب في صقلية وإيطالية

- ‌(2) حضارة العرب في صقلية

- ‌(3) غزو العرب لفرنسة

- ‌الفصل الثامناصطراع النصرانية والإسلامالحروب الصليبية

- ‌(1) منشأ الحروب الصليبية

- ‌(2) خلاصة الحروب الصليبية

- ‌(3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق

- ‌الباب الرابعطبائع العرب ونظمهم

- ‌الفصل الأولأهل البدو وأهل الأرياف من العرب

- ‌(1) تمثل حياة قدماء العرب

- ‌(2) حياة أهل البدو من العرب

- ‌(3) حياة أهل الأرياف من العرب

- ‌(3 - 1) الحياة الاجتماعية

- ‌(3 - 2) المساكن

- ‌(3 - 3) الطعام

- ‌(3 - 4) الأزياء

- ‌الفصل الثانيعرب المدن: طبائعهم وعاداتهم

- ‌(1) المجتمع العربي

- ‌(2) المدن العربية، البيوت، الأسواق…إلخ

- ‌(2 - 1) المدن العربية

- ‌(2 - 2) المساكن

- ‌(2 - 3) الأسواق

- ‌(3) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن

- ‌(3 - 1) الولادة والختان

- ‌(3 - 2) الزواج

- ‌(3 - 3) المآتم

- ‌(4) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش)

- ‌(4 - 1) الحمَّامات

- ‌(4 - 2) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش

- ‌(5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون…إلخ

- ‌الفصل الثالثنظُم العرب السياسية والاجتماعية

- ‌(1) مصدر نظم العرب

- ‌(2) نُظُم العرب الاجتماعية

- ‌(3) نظم العرب السياسية

- ‌الفصل الرابعالمرأة في الشرق

- ‌(1) أسباب تعدد الزوجات في الشرق

- ‌(2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

- ‌(3) الزواج عند العرب

- ‌(4) الحريم في الشرق

- ‌الفصل الخامسالدينُ والأخلاق

- ‌(1) تأثير الدين في المسلمين

- ‌(2) الطقوس الدينية في الإسلام

- ‌(2 - 1) الفِرَق الإسلامية

- ‌(2 - 2) المباني الدينية

- ‌(3) الأخلاق في الإسلام

- ‌الباب الخامسحضارة العرب

- ‌الفصل الأولمصادر معارف العرب: تعليمهمومناهجهم

- ‌(1) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية

- ‌(2) مناهج العرب العلمية

- ‌الفصل الثانياللغة والفلسفة والآداب والتاريخ

- ‌(1) اللغة العربية

- ‌(2) فلسفة العرب

- ‌(3) الأدبُ العربيُّ

- ‌(3 - 1) الشعر عند العرب

- ‌(3 - 2) الروايات والأقاصيص

- ‌(3 - 3) الحكايات والأمثال

- ‌(3 - 4) التاريخ

- ‌(3 - 5) البيان والبلاغة

- ‌الفصل الثالثالرياضيات وعلم الفلك

- ‌(1) الرياضيات

- ‌(2) علم الفلك عند العرب

- ‌الفصل الرابعالعلوم الجغرافية

- ‌(1) ريادات العرب الجغرافية

- ‌(2) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية

- ‌الفصل الخامسالفيزياء وتطبيقاتها

- ‌(1) الفيزياء والميكانيكا

- ‌(2) الكيمياء

- ‌(3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات

- ‌(3 - 1) (المعارف الصناعية)

- ‌بارود الحرب والأسلحة النارية

- ‌الوِراقة

- ‌استخدام البوصلة في الملاحة

- ‌الفصل السادسالعلوم الطبيعية والطِّبية

- ‌(1) العلوم الطبيعية

- ‌(2) العلوم الطبية

- ‌(2 - 1) آثار العرب الطبية

- ‌علم الصحة عند العرب

- ‌تقدُّم العرب في الطب

- ‌الفصل السابعالفنون العربيةالرسم والحفر والفنون الصناعية

- ‌(1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار

- ‌(2) مصادر الفنون العربية:

- ‌(3) الجمال في فنون العرب:

- ‌(4) الفنون الصناعية العربية:

- ‌(4 - 1) التصوير:

- ‌(4 - 2) صنع التماثيل:

- ‌(4 - 3) صناعة المعادن والحجارة الثمينة:

- ‌(4 - 4) النقود والأوسمة:

- ‌(4 - 5) المصنوعات الخشبية:

- ‌(4 - 6) الفسيفساء:

- ‌(4 - 7) صناعة الزجاج:

- ‌(4 - 8) الصناعة الخزفية:

- ‌(4 - 9) المنسوجات والبسط والزرابي:

- ‌الفصل الثامنفن عمارة العرب

- ‌(1) معرفتنا الحاضرة لفن عمارة العرب

- ‌(2) عناصر فن عمارة العرب المميزة:

- ‌(3) المقابلة بين مباني العرب الفنية:

- ‌(3 - 1) مباني بلاد سورية:

- ‌(3 - 2) مباني بلاد مصر:

- ‌(3 - 3) مباني بلاد إفريقية الشمالية:

- ‌(3 - 4) مباني بلاد صقلية:

- ‌(3 - 5) مباني بلاد الأندلس:

- ‌(3 - 6) مباني بلاد الهند:

- ‌(3 - 7) مباني بلاد فارس:

- ‌ ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة:

- ‌(أ) الطراز العربي قبل ظهور محمد:

- ‌(ب) الطراز البيزنطي العربي:

- ‌(ج) الطراز العربي الخالص:

- ‌(د) الطراز العربي المختلط:

- ‌الفصل التاسعتجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم

- ‌(1) صلات العرب بالهند:

- ‌(2) صلات العرب بالصين:

- ‌(3) صلات العرب بإفريقية:

- ‌الفصل العاشرتمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب

- ‌(1) تأثير العرب في الشرق:

- ‌(2) تأثير العرب في الغرب:

- ‌(2 - 1) تأثير العرب العلمي والأدبي:

- ‌(2 - 2) تأثير العربي في فن العمارة

- ‌(2 - 3) تأثير العرب في الطبائع:

- ‌الباب السادسانحطاط حضارة العرب

- ‌الفصل الأولورثة العربتأثير الأوربيين في الشرق

- ‌(1) ورثة العرب في الأندلس:

- ‌(2) ورثة العرب في مصر والشرق:

- ‌(3) ورثة العرب في الهند:

- ‌(4) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم

- ‌الفصل الثانيأسباب عظمة العرب وانحطاطهمحالُ الإسلام الحاضرة

- ‌(1) أسباب عظمة العرب

- ‌(2) أسباب انحطاط العرب

- ‌(3) مقام العرب في التاريخ:

- ‌(4) حال الإسلام الحاضرة:

الفصل: ‌(2) أسباب انحطاط العرب

فالذي يحدُث في حياة الأمم، في الغالب، هو أن تأثير الماضي يُعَبِّد الناس لنِير التقاليد المسنة بعد نفعه لهم، ويمنعهم من كل تقدم.

ولم يلبث أن تجلَّى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض غير وقتٍ قصير حتى طبعوا على فنِّ العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابَعهم الخاص الذي يبدو في آثارهم أول وهلة، وأنهم لم يبالوا بفلسفة اليونان النظرية لملاءمتها القليلة لمزاجهم النفسي، وأن همَّهم كان مصروفاً إلى الفنون والعلوم والآداب على الخصوص، فوصفنا بدرجة الكفاية ما ابتكروه في هذه الفروع الكثيرة.

تلك هي أسباب عظمة العرب السياسية، ولنبحث الآن في أسباب انحطاطهم.

(2) أسباب انحطاط العرب

يمكن الاستنادُ إلى كثير من العوامل التي ذكرنا أنها من أسباب عظمة العرب في بيان انحطاطهم، ويكفي أن ننظر إلى عامل الزمن المهم؛ لنعلم أنه ينشأ عن أنفع صفات الأفراد والأمم في أحد الأزمنة أسوأ النتائج في زمن آخر، وأن الاستعداد الخُلقي أو الذهني الذي يكون عامل نجاح في أحد الأوقات حتماً يكون عامل حبوطٍ وإخفاق في وقت ثانٍ.

ولقد بَينْتُ سابقاً كيف أن غرائز العرب في الحرب والخصام، التي كانت نافعة في دَوْر فتوحهم، لم تلبث أن أصبحت ضارةً بعد انقضائه وخُلُو الميدان من أعداء يحاربونهم، وذلك أن العرب، بعد أن تمَّت فتوحهم، أخذ ميلهم المتأصل إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ حتى سقطت، وذلك كما حدث لهم في إسبانية وصقلية اللتين أضاعوهما بفعل انقساماتهم الداخلية على الخصوص، واللتين أجلاهم النصارى عنهما بسبب تنافسهم الدائم فيهما.

ويمكن عد نُظم العرب السياسية والاجتماعية، التي ذكرنا أنها من أسباب تقدمهم السريع، من عوامل انحطاطهم أيضًا، وبيان ذلك: أن العرب لم يقدروا على فتح العالم إلا حينما خضعوا للشريعة الجديدة التي جاء بها محمد، وجمعوا كلمتهم المتفرقة تحت لوائها، وهي التي كان يمكنها وحدها أن تجمع القوى المبعثرة في جزيرة العرب، وقد بَقِي نير هذه الشريعة الحازم طيباً ما بَقيت نظم النبي ملائمة لاحتياجات أمته، فلما أصبح تعديل هذه النظم ضربة لازبٍ، بسبب مبتكرات حضارة العرب، كان نير التقاليد من الثِّقل بحيث لا يمكن زحزحته.

ص: 632

شكل 2 - 4: تاجر تونسي (من صور فوتوغرافية)

وعادت نُظُم القرآن، التي كانت عنوان احتياجات العرب في زمن محمد، لا تكون هكذا بعد بضعة قرون، والقرآن، إذ كان دستوراً دينياً ومدنياً وسياسياً في آن واحد، وكان لا يتبدل بسبب مصدره الإلهي، تَعَذَّر تعديل أحكامه الأساسية.

وتجلَّت نتائج الاختلاف - على الخصوص - بعد أن أخذ نجم سلطان العرب يَأفُل، وصار يتكرر رد الفعل الديني الذي أصبح يهدف باسم تجديد الإسلام، إلى وقوف الإسلام عند ظاهر أي القرآن، مع أن المسلمين في عصور خلفاء بغداد وقرطبة الزاهرة كانوا يعرفون جيداً أن يُعدِّلوا تعاليمهم وفق ما تقتضيه احتياجات الأمم التي رَضِيَتْ بها.

وتجلى محذور عدم القدرة على التعديل الكبير - على الخصوص - في نُظُم العرب السياسية التي تقضي بأن يَقْبِض على زمام الدولة وليُّ أمر واحد يجمع في يده جميع السلطات العسكرية والدينية والمدنية، فهذه النظم، وإن كانت وحدها تساعد على تأسيس دولة عظيمة بسهولة، تعدُّ أقل النظم صلاحًا لبقائها، والدول الكبرى المطلقة التي تكون جميع السلطات فيها قبضةَ رجل واحد، وإن كانت ذات قدرة عظيمة على

ص: 633

الفتح، لا ترتقي إلا إذا كان على رأسها رجال عظماء، فإذا افتقدتهم تداعى كل شيء دفعة واحدة.

ومن نتائج سوء نظام العرب السياسي: ما أصيبت به دولتهم من الانقسام، أي لم يُعتِّم ولاة الأقطار، الذين كان يَنْصِبُهم الخلفاء ليديروا شؤونها، والذين كانوا يتمتعون فيها بمثل ما يتمتع به الخلفاء من السلطات العسكرية والدينية والمدنية، أن أرادوا الاستقلال بها، وقد سَهَل عليهم هذا الاستقلال؛ لما لم يروا من سلطان يساوي سلطانهم، وقد نشأ عن نجاح بعضهم إغراءُ الآخرين، فلم تلبث أهم ولايات الدولة أن تحولت بهذا إلى دويلات مستقلة.

وكان لهذا الانقسام نتائجُ ضارةٌ ونتائج نافعة، فأما نتائجه الضارة: فهي أنه أضعف سلطان العرب الحربي، وأما نتائجه النافعة فهي: أنه مَهَّدَ السبيل لتقدم الحضارة، والحق أن مصر والأندلس ما كانتا لتبلغا ما وَصَلتا إليه من الرقي والرخاء لو لم تنفصلا عن الدولة الكبرى، وأنه ما كان ليتفق لهما، في حالة بقائهما من أجزاء تلك الدولة، غيرُ مصير الولايات العثمانية التي يُعزل ولاتها عزلًا مستمرًا فلا يصرفون همَّهم إلا إلى الاغتناء منها بسرعة؛ لِمَا لا يَرَون لأنفسهم فوائد في تقدمها.

أجل، إن تقدم بعض تلك الدُّويلات المستقلة كان عظيمًا، ولكن عاقبتها كانت كعاقبة الدول القديمة التي استندت إلى عدد الجنود وقيمتهم في سلطانها العسكري بدلًا من أن تستند بعض الاستناد إلى أداةٍ حربية مهمة كما هو واقعٌ الآن، والتي كانت تنهار أمام أول غارة أجنبية.

ثم إن الحضارة التي تهذب الطبائع وتُثقف الذهن لا تُنمِي الصفات الحربية، وهي تهيئ سقوط الدول الكبرى بذلك، وذلك لأن الأمم التي يكون أبناؤها من المُعوِزين ترغب في تغيير حالها، وتهدد الأمم المتمدنة المتقاعسة التي تكون على شيء من الرَّخاء، وبهذا سقطت أكثر الحضارات القديمة، وهذا ما أصاب الرومان، وهذا ما أصاب العرب أيضاً، ولو كان الترك والمغول وغيرهم من الأمم التي صرعت العرب في إبان تمدنهم قد هاجموا أتباعَ النبي أيام تأسيس هؤلاء لدولتهم، وتأليفهم أمةً صابرة على المكاره متعودة شظف العيش غير مُترَفةٍ لباءوا بالخسران.

ونذكر من أسباب انحطاط العرب أيضًا: اختلافَ العروق التي خضعت لسلطانهم، ويتجلَّى تأثير هذا السبب على وجهين مختلفين مشؤومين: الأول؛ ما أسفر عن تقابل مختلف العروق من التحاك، وما يجر إليه هذا التحاك من تنافسها. والثاني؛ ما أسفر عن التوالد الكثير من فساد دم الغالبين بسرعة.

ص: 634

وكان اختلاط مختلف الأمم في دولة واحدة عاملَ انحلال قويٍّ دائماً، وقد أثبت التاريخ أنه لا يمكن بقاء مختلف العروق تحت سلطان واحد إلا بمراعاة الشرطين الآتيين، وهما: أن يكون الفاتح من القوة ما يَعلمُ كل واحد معه أن كلَّ مقاومة له لا تُجدي نفعًا، وألا يتوالد الغالب والمغلوب، ومن ثَمَّ ألا يفنى الغالب فيه.

ولم يُراعِ العرب الشرط الثاني قط، ولم يراعِه الرومان في كل زمن، وقد انحط الرومان حالاً حينما عَدَلوا عنه.

ومن أهم العوامل الكثيرة في انحلال العالم الروماني القديم؛ سهولةُ منح السادة القدماء جميعَ حقوق المواطن للبرابرة، فقد نَجَم عن هذا أن غصَّت رومة بمختلف العروق، وعَطِلَت من سيادة الرومان، وانطفأت المشاعر التي كانت سر عظمتها سابقاً، وقد كان المواطن من أهل رومة لا يتردد ثانيةً في التضحية بحياته في سبيلها؛ لما في عظمتها من مثلٍ عالٍ قادر، فما تكون قيمة مِثْلَ هذا المثل الأعلى في نفوس البرابرة؟

ومن الصعب جدٍّا أن تَنْضَوِيَ إلى نظامٍ واحدٍ أممٌ مختلفة العروق وذات مصالح ومشاعر متباينةٍ في الغالب، وهذا لا يكون إلا بالضغط الشديد على الأكثر، ومن الأدلة عليه النظام المفروض على الايرلنديين والهندوس في الوقت الحاضر.

وما كان العرب ليلجئوا إلى مثل هذا الضغط حِيالَ مختلف العروق التي خضعت لهم ما انتحلت ديانتهم ونظمهم بسهولة، وما ساوى الإسلام مساواةً تامة بين جميع الذين اعتنقوه على اختلاف شعوبهم.

هذه هي شريعة القرآن، ولم يرغب الغالبون عنها، ولم يؤلف الغالبون والمغلوبون في بدء الأمر سوى أمة واحدة ذات معتقداتٍ واحدة ومشاعر واحدة ومصالحَ واحدةٍ، وقد ساد الوِفاق جميعَ نواحي الدولة العربية ما ظل العرب أقوياءَ محترمين في كل مكان.

بيد أن منافساتِ هذه الشعوب كانت خامدةً غيرَ هامدة، وقد بدت حينما عاد العرب إلى ما تعودوه من الشِّقاق والانقسام، وصارت بلاد الإسلام ميدان خصام دائم بين أحزابٍ لم تترك تنازعها حتى حين كان النصارى يحاصرون آخر مَعقِلٍ إسلاميٍّ في الأندلس.

ونشأ عن وجود عروقٍ كثيرة في البلاد التي دانت للإسلام نتيجةٌ أخرى أشرنا إلى خطرها آنفًا، وهي اضطرار العرب إلى الامتزاج بجميع الأمم التي كانوا يعيشون بينها، وكان يمكن العرب أن يكتسبوا بعض الأهليات من اختلاطهم بالأمم التي لم

ص: 635