الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
فتوح العرب
(1) حال العالم في زمن محمد
كان يتنازع سيادة العالم حين وفاة محمد دولتان عظيمتان، إحداهما: دولة الروم التي كانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت صاحبة السلطان على جنوب أوربة والشرق الأدنى وشمال إفريقية الممتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي، والأخرى: دولة الفرس التي كان سلطانها ممتداً إلى مكان بعيد من آسية، وكان شمال أوربة وغربها فريسة للبرابرة الذين كانت أمورهم فوضى، وكانوا يتقاتلون على أسلاب الرومان وغنائمهم.
وكانت دولة الروم التي نهكتها محارباتها لدولة الفرس، والتي كانت تعاني عوامل الانحلال الكثيرة، في دور الانحطاط، ولم تكن غير هيكل نخر يكفي أقل صدمة لتداعيه.
وكذلك كانت علائم الانقراض بادية على دولة الفرس التي أوهنتها تلك الحروب أيضاً.
وأثقل الحكم الروماني كاهل مصر وإفريقية، وكانت القسطنطينية تستغل شعوبها من غير أن تحسن سياستهما، وكانت الاختلافات الدينية ومظالم الحكام تقوض دعائمهما.
ولم تكن أوربة أحسن حال، فكان الحكم في إسبانية، التي ستصبح مقراً لدولة زاهرة تحت الحكم العربي، بيد القوط المسيحيين الذين لم يستطيعوا أن يتمدنوا، والذين أكلتهم الانقسامات الدينية فاستغاثوا بقيصر الروم، فلم يعتم حلفاؤهم أن صاروا أعداء تجب محاربتهم، وفقدت رومة الإيطالية نفوذها القديم، وأصبح اسم الروماني محتقراً في كل مكان، وصار البرابرة يتناوبون السيطرة عليها.
ولم تكن الفوضى ظاهرة في مكان ظهورها في سورية التي هي أول قطر استولى عليه العرب، وكان هم المدن السورية، التي لم تنلها أيدي التخريب في الحروب الرومية الفارسية الدائمة، والتي لم تزل على شيء من النضارة، مقتصراً على المعاملات التجارية والمجادلات الدينية، ولم تبالي بما كان يقع خارج أبوابها، وكانت تهجير أريافها، ولم يكترث أهلوها لشيء من المبادئ القومية، وكانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتح يعد بإطعامهم، وكان الأرستوقراطيون من سلالة فاتحي سورية، الذين أفسدهم توالدهم والأمم الآسيوية، قد انحدروا إلى الحضيض فخسروا قيمتهم ونفوذهم.
شكل 3 - 1: ثلاث قطع من نقود الخلفاء الأولين (أخذت صور هذه النقود والنقود التي تليها من مجموعة مسيو مارسيل).
ونحن، عندما بحثنا في كتابنا السابق عن مختلف العوامل التي تؤثر في تطور المجتمعات، قلنا: إن المثل الأعلى هو من أهمها، وذكرنا أن عبادة الوطن والمعتقد الديني وحب الاستقلال والمجد والأمة والمدنية
…
وغيرها من المثل العليا هي من الخيالات من
الناحية الفلسفية، وأن مثل هذه الخيالات هي التي تقود الناس دائماً، وأن أمر النظم السياسية والاجتماعية التي وقت البشر حتى الآن قد استقام بفضلها، وأن عظمة الرومان قامت على عبادة رومة على الخصوص، وأن رومة كانت سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل زيادة سلطانها.
وكانت الأمم الإغريقية الرومانية والآسيوية، وقت ظهورِ محمدٍ، قد فَقَدَت مُثُلَها العليا منذ زمن طويل، فلم يبقَ لحبِّ الوطن، وعبادة الآلهة أثرٌ في نفوس أبنائها، وكانت الأثَرَة كلَّ ما في قلوب هؤلاء الأبناء، والأثرَةُ إذا كانت دليلَ قومٍ عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.
وقد استطاع محمد أن يبدع مثلاً عالياً قوياً للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص، وذلك المثل الأعلى الجديد هو من الخيالات لا ريب، شأن الممثل العليا التي ظهرت قبله، ولكنك لا تجد من الحقائق ما هو قوي قوة هذه الخيالات، ولم يتردد أتباع النبي في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى طامعين في الجنة التي لا يعدلها شيء من متاع هذه الحياة الدنيا.
ولم يلبث الإسلام أن من على جميع الشعوب التي خضعت لسلطانه مثل ما منت به عظمة رومة على الرومان، فمنح تلك الشعوب مصالح مشتركة، وآمالاً مشتركة موجها بذلك جهودها نحو غرض واحد مع أنها كانت ذات مصالح مختلفة قبل ذلك.
شكل 3 - 2: قطعة من نقود الخليفة الأموي هشام، بدمشق (? ? ? هـ/? ? 5 م).
وإن وحدة المصالح والمعتقدات، وإن كانت تؤدي إلى تجانس الأمة، لا تعطيها من الوسائل ما تقر به على الفتح العالمي، ولو كانت أركان العالم متداعية كالدولة الإغريقية الرومانية والدولة الفارسية في زمن ظهور محمد، فقد كانت تانك الدولتان مرهوبتين
شكل 3 - 3: قطعة من نقود الخليفة المهدي (? 6? هـ/? ? ? م).
شكل 3 - 4: قطعة من نقود الخليفة المأمون (? ? ? هـ/? ? ? م).
مع ما كان يبدو من وهنهما، فكان لا بد للأمة التي تريد محاربتهما من أن تكون ذات صفات حربية عظيمة، فضلاً عن معتقداتها التي توجه جهودها إلى غرض واحد، ولم يحتج العرب إلى ما يتطلبه مثل هذا العمل الجليل من الشجاعة وحب القتال ما ورثهما العرب أباً عن جد، مضافاً ذلك إلى ما نشأ عن إيمان العرب الجديد من حرصهم على الشهادة حباً للجنة التي وعدوا بها.
ولكن العرب كانوا يجهلون فن الحرب جهلاً تاماً، ولا تقوم الشجاعة مقام هذا الفن، وكان اقتتال العرب فيما بينهم من نوع اقتتال البرابرة الذين ينقضون على أعدائهم بلا نظام، ولا يحارب كل واحد إلا من أجل نفسه، وكان غير هذا أمر الفرس والروم الذين كانت معرفتهم لفن الحرب عظيمة جداً كما ظهر من اشتباكهم الأول بالعرب، ولم يلبث العرب أن علموا من الهزائم التي أصابتهم في سورية ما كان يعوزهم، وأن اقتبسوا من قاهريهم كثيرا من شؤون الحرب، وأخذوا عمن التحق بهم من الرجال الذين اجتذبهم