الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حينما نعلم أن النساء في الأسر الإسلامية «الزراعية» هنَّ اللائي يَقُمن بشئون المنزل مهما كانت شاقةً، وذلك أن الفلاحين إذ كانوا يجهلون أمر اتخاذ الخوادم لم يبقَ للنساء غير الاستعانة بالإماء والقريبات اللائي يكنَّ في الزمرة نفسها، وقد لا يكون هنالك قريبات، وقد لا تسمح الأحوال باشتراء إماء، وقد تصبح الإماء عند اشترائهن جواريَ منافساتٍ للزوجة الأولى في الحظوة لدى رب الأسرة، فلا يكون لدى الزوجة الأولى ما يستلزم تفضيلَ الإماء هؤلاء على الزوجات الشرعيات الأخر، ومن ثم ترى أن الزوجة تشير في تلك الأحوال على زوجها بأن يَبنيَ بزوجة أخرى، ولا سيما إذا علمت أنها تصنع ذلك حينما تكون آخذةً في الهرم منهمكةً في واجبات الأمومة.
ومن العوامل المهمة التي ذكرها ذلك المؤلف في تعدد الزوجات عند الشرقيين هو «حُبُّهم للذرية الكثيرين، ولا عَجَبَ، فالعُقم عند الشرقيين من أعظم ما يصاب به إنسان، والشرقي إذا ما رُزق بضعة أولاد طمع في زيادة عددهم، وتزوج بنساءٍ أخُرَ وصولاً إلى هذا الغرض.»
ولاحظ ذلك المحقق أن تعدد الزوجات عند الشرقيين لا يؤدي إلى تحاسدهن وتنافسهن، ويرى الأوربيون استحالة ذلك لما يُساوِرُهم من مبتسَراتٍ لا ريب، ورأيُ الأوربيين هذا ناشئ عن نظرنا إلى الأمور من خلال مشاعرنا، لا من خلال مشاعر الآخرين، ويكفي انقضاء بضعة أجيال لإطفاء مبتسَرَاتٍ أو إحداثِها، ويمكننا أن ندرك ضرورةَ تبديل رأينا في هذا الأمر عند الرجوع إلى أدوار المجتمعات الفطرية الأولى حين كان النساء شيئاً مُشاعاً بين رجال القبيلة الواحدة، أو إلى الأدوار التي هي أقرب من تلك حين كان النساء شيئاً مُشاعاً بين أفراد الأسرة الواحدة، أو إلى أيامنا التي نرى فيها وجود هذه الطبائع في بعض أجزاء الهند.
(2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق
لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجوداً قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعيِّ وشأنَها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضها خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في
حقوق الإرث عند العرب، أَجَلْ، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون «للمطلقات متاعٌ بالمعروف.»
وأحسن طريقٍ لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهنَّ قبل القرآن وبعده.
يمكننا استجلاء الحال التي كانت عليها النساء قبل ظهور النبي من التحريم الآتي الذي جاء في القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمُّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأخَ وَبَنَاتُ الْأخُتِ وَأمُّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأمُّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأخُتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّ للهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} .
وتحريم مثل هذا، وإن كان لا يدل على رقي عادات الأمة التي اقتضته، يهُونُ أمر دلالته عندما نعلم أن ما أشار إليه من العادات كان شائعًا بين جميع الأمم السَّامِيَّة، فالتحريم الذي جاء في التوراة (الأصحاح الثامن عشر من سِفرِ اللاويين 6 - 18) مثل ما جاء في القرآن، ويشير إلى أمور أشد خطراً مما أشار إليه القرآن.
وكان الرجال قبل ظهور مُحَمَّد يَعُدُّون منزلة النساء متوسطةً بين الأنعام والإنسان من بعض الوجوه، أي أداةً للاستيلاد والخدمة، وكانوا يَعُدُّون ولادة البنات مصيبة، وشاعت عادة الوأد، وصار لا يُجادَل فيها كما لو كانت البنات جِرَاءً يُقذف بها في الماء، ويمكننا أن نتمثَّل عادة الوأد عند العرب من المحاورة الآتية التي وقعت بين رئيس بني تميم قيسٍ ومُحَمَّد، حينما رأى قيسٌ محمدًا يضع إحدى بناته على ركبتيه، والتي رواها كوسان دوبرسفال:
قيس: مَن هذه الشاة التي تَشَمُّها؟
مُحَمَّد: ابنتي.
قيس: ولله كان لي بناتٌ كثيرٌ، فَوَأَدْتهُنَّ من غير أن أشمَّ واحدةً منهن.
مُحَمَّد (صارخاً): ويلٌ لك، يظهر أن لله نزع الرحمة من قلبك، فلا تَعرِف أطيبَ النِّعَم التي مَنَّ لله بها على الإنسان.
وإذا أردنا أن نعلم درجة تأثير القرآن في أمر النساء وجب علينا أن ننظر إليهنَّ أيام ازدهار حضارة العرب، وقد ظهر مما قَصَّه المؤرخون، فنذكره فيما بعد، أنه كان لهن
شكل 4 - 3: امرأة بربرية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
من الشأن ما اتفق لأخَوَاتهن حديثاً في أوربة، وذلك حين انتشار فروسية عرب الأندلس وظَرْفِهم.
وقد ذكرنا في فصلٍ سابق أن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، والإسلام، إذن، لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدَّرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافاً للاعتقاد الشائع، وإذا نظرتَ إلى سنيورات نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتَهم لم يحملوا شيئاً من الحُرمة للنساء، وإذا تصفحت كُتُب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يُزيل كلَّ شك في هذا الأمر، وعلمت أن رجال عصر الإقطاع كانوا غِلاظاً نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهنَّ بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غاران لُولُوهِيرَان عن معاملة النساء في عصر شارلمان وعن معاملة شارلمان نفسه لهنَّ كما يأتي:«انقضَّ القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال، وأخذ بشعرها وضربها ضرباً مبرِّحاً، وكسر بقفَّازه الحديدي ثلاثاً من أسنانها» ، فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربةٍ في الوقت الحاضر لبدا هذا السائق أرَقَّ منه لا ريب.
ومن الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب كثرَةُ من اشتهر منهن بمعارفهن العلمية والأدبية، فقد ذاع صيتُ عددٍ غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق والعصر الأموي في إسبانية، ونذكر منهنَّ بنتَ أحد الخلفاء، الذي كان جالساً على عرش الخلافة سنة 860 (! ) ولَّادَة التي لُقِّبت بسافو قرطبة، وقال كونده مُلخِّصاً ما ذكره مؤرخو عبد الرحمن الثالث:
كان عبد الرحمن الثالث، وهو يتمتع بأطايب مدينة الزهراء، يحبُّ أن يستمع إلى أغاني جاريته وأمينة سِرَّه العذبة مُزْنَةَ وإلى فتاة قرطبة الكريمة عائشة، التي روى ابن حيان أنها كانت أعقل بنات عصرها وأجملهنَّ وأعلمهن، وإلى صفية التي كانت شاعرةً باهرة الجمال
…
»، وأضاف مؤرخو الحكم الثاني إلى ذلك قولَهم: «إن نساء ذلك الزمن ــ الذي كان للعلم والأدب شأنٌ عظيم فيه ببلاد الأندلس ــ كنَّ مُحبَّات للدرس في خُدُورهن، وكان الكثير منهن يتميَّزن بدماثتهن ومعارفهن، وكان قصر الخليفة يضمُّ لُبنى، أي هذه الفتاة الجميلة العالمة بالنحو والشعر والحساب وسائر العلوم والكاتبة البارعة التي كان الخليفة يعتمد عليها في كتابة رسائله الخاصة، والتي لم يكن في القصر مثلها دقةَ تفكيرٍ وعذوبةَ قريضٍ، وكانت فاطمة تكتب بإتقان نادر، وتنسخ كتباً للخليفة، ويُعجب جميع العلماء برسائلها، وتَملك مجموعة ثمينة من كتب الفن والعلوم، وكانت خديجة تَنْظِم الأبياتَ الرائعة وتُنشِدها بصوتها الساحر، وكانت مريم تعلِّم بنات الأسُر الراقية في إشبيلية العلمَ والشعر مع شهرةٍ عظيمة فتخرَّجت في مدرستها نساءٌ بارعات كثيرات، وكانت راضية، المعروفة بالكوكب السعيد والتي حَرَّرها الخليفة عبد الرحمن وتَنَزَّلَ عنها لابنه الحكم، نابغة عصرها في القريض ووضع القصص الرائعة فساحت في الشرق بعد موت الخليفة، وكانت محلَّ هُتاف العلماء في كل مكان.
وخَبَت حضارة قدماء الخلفاء الساطعة في عهد وارثي العرب، ولا سيما في عهد الترك، فنقص شأن النساء كثيراً، وسَأبُيِّن في مكان آخر أن حالتهن الحاضرة أفضل من حالة أخواتهن في أوربة حتى عند الترك، وما تقدم يُثْبِت أن نقصان شأنهن حدث خلافاً للقرآن، لا بسبب القرآن على كل حال.
وهنا نستطيع أن نكرر، إذن، قولَنا: إن الإسلام، الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم نكن أول من دافع عن هذا الرأي، فقد سَبَقَنا إلى مثله كوسان دوبرسفال ثم مسيو بَارْتِلْمِي سَنْت هِيلِر.
شكل 4 - 4: امرأة بربرية من جوار بسكرة (من صورة فوتوغرافية).
ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نُضيف إلى هذا أنه أول دين فعل ذلك، ويَسْهُل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة، وهذا ما أوضحناه في كتابنا الأخير، فلا نرى غير تكرار ما ذكرناه فيه لإقناع القارئ: كان الأغارقة، على العموم، يَعُدُّون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وَضَعَت المرأة ولدًا دميمًا قَضَوا عليها، ومن ذلك قول مسيو ترُوبْلُونْغ: كانت المرأة السيئة الحظ التي لا تضع في إسبارطة ولداً قوياً صالحاً للجندية تُقتَل، وقال: كانت المرأة الولود تُؤخذ من زوجها بطريق العارية؛ لتَلِد للوطن أولاداً من رجل آخر.
ولم يَنَل حُظوَةً من نساء الإغريق في دور ازدهار الحضارة اليونانية سوى بنات الهوى اللاتي كنَّ وحدَهن على شيء من التخرج.
وكان جميع قدماء المشترعين يُبدون مثل تلك القسوة على المرأة، ومن ذلك قول شرائع الهندوس «ليس المصير المقَدَّر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار أسوأ من المرأة.»
ولم تكن التوراة أرحم بالمرأة من شرائع الهند، ومن ذلك قول سِفر الجامعة:«إن المرأة أمرُّ من الموت» ، وإن «الصالح أمام لله ينجو منها
…
رجلاً واحداً بين ألف وجدتُ، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد.»
شكل 4 - 5: فتاة مراكشية (من صورة فوتوغرافية).
وليست أمثال مختلف الأمم أكثر اعتدالاً، فالمثل الصيني يقول:«أنصت لزوجتك ولا تصدِّقها» . والمثل الروسي يقول: «لا تجد في كل عشر نسوة غير روح واحدة» ، والمثل
الإيطالي يقول: «الِمهْمَازُ للفرس الجواد والفرس الجموح، والعصا للمرأة الصالحة والمرأة الطالحة» ، والمثل الإسباني يقول:«احذر المرأة الفاسدة ولا تركن إلى المرأة الفاضلة.»
شكل 4 - 6: فتاة عربية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية)
وتعُدُّ جميعُ الشرائع الهندوسية واليونانية والرومانية والحديثة المرأةَ من فَصِيلة الإماء أو الصبيان، ومن ذلك قول شريعة مَنُو:«تخضع المرأة في طفولتها لأبيها، وفي شبابها لزوجها، وفي تَأَيُّمها لأبنائها إذا كان لها أبناء، وإلا فإنها تخضع لأقرباء بَعْلَها، أي لا يجوز تركُ أمرها لها» ، ويَقْرُب من هذا ما ورد في شرائع اليونان والرومان، فقد كان سلطان الرجل في رومة على زوجته مطلقاً، وكانت تعد أمةً لا قيمة لها في المجتمع، ولم يَكن لها قاضٍ سوى زوجها الذي بيده حقُّ حياتها وحق مَوتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأةَ بأحسنَ من هذا، وهي لم تعترف لها بأيِّ حق، ولا بحق الميراث.