الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولنتكلم الآن بإيجاز عن المباني المهمة التي تركها المسلمون في إسبانية، وسنتبع طريقتنا في نشر صور صادقة عنها نشراً يغنينا عن الوصف المفصل، وذلك على أن نعود إلى الكثير منها في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فن العمارة العربي.
(4 - 1) المباني العربية في قرطبة
إن جامع قرطبة الشهير الذي بدأ عبد الرحمن بإنشائه في سنة 780 م، والذي يعده علماء المسلمين قبلة أنظار المغرب، من أجمل المباني التي شادها العرب في إسبانية، قال كونده: بني ذلك المسجد الجامع في أواخر القرن الثامن من الميلاد بأمر عبد الرحمن الأول وإشرافه، وروي أن عبد الرحمن الأول هذا أراد أن يجعله مماثلاً لجامع دمشق على أوسع نطاق، ومذكراً الناس بفيض زخارفه، بعجائب هيكل سليمان القدسي المجيد الذي هدمه الرومان.
ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أحدثه الإسبان فيه من التلف والفساد، ومع تلك الكنيسة الواسعة التي أقاموها فيه لتطهيره، ومما صنعه الإسبان أن كلسوا زخارف جدره وكتاباته، ونزعوا منه فسيفساء أرضه، وباعوا تحف سقفه الخشبية المحفورة المزوقة، فيجب على من يرغب في تمثل شيء مما كان عليه جامع قرطبة أن ينظر إلى محرابه الذي تفلت وحده من التخريب.
ويقوم سقف جامع قرطبة على أعمدة، ويتكون من اجتماع هذه الأعمدة صفوف من الصحون الكبيرة المتوازية المؤدية إلى باحته، وتتقاطع هذه الصحون وصحون أخرى كتقاطع الأضلاع الذي ينشأ عنه زوايا قائمة، ويتألف من مجموع تلك الأعمدة غابة من الرخام والطب والغرانيت، وتعلو تلك الأعمدة أقواس رائعة منضدة مصنوعة على شكل نعل الفرس.
شكل 6 - 14: قاعة البركة في قصر الحمراء (من تصوير جونس)
ولا يؤدي ارتفاع سقف جامع قرطبة الذي لا يزيد على عشرة أمتار إلى ما نراه في الكتدرايات القديمة، التي أقيمت على الطراز القوطي في القرون الوسطى، من الجلال الأذن ككتدرائية كولونية وستراسبرغ، وإنما ينشأ عن تنضد أقواسه وتنوع زخارفه منظر مبتكر بديع قلما تجد مثله في مبان أخرى.
وأما محراب جامع قرطبة فإننا، من غير أن تجاري جيرول دوبرانجه في قوله:«إنك لا ترى أحسن من زخرفه وسنائه في أي أثر قديم أو حديث مماثل» ، نعترف بأنه من أجمل ما تقع عليه عين بشر.
وأقيم جامع قرطبة أيام كان الفن العربي في فجره، وتدرج الفن العربي إلى الكمال، فأقيمت على الطراز العربي الكامل مبان عجيبة كالحمراء تخبر، بما لها من الروعة
والجلال قادم الأجيال بما كان للقوم الذين شادوها من الذوق الفني وحب كل ما هو ساطع بديع عجيب.
شكل 6 - 15: منظر التقط في قاعة الأختين بقصر الحمراء (من تصوير جونس).
وأرى، قبل أن أغادر قرطبة، أن أذكر، أيضاً، قصر الزهراء الساحر الذي بناه عبد الرحمن في القرن العاشر بعيداً بضعة فراسخ من قرطبة، والذي درس رسمه وقص التاريخ نبأه، وإن الضبط الذي وصف به كتاب العرب جامع قرطبة لدليل على صدق ما وصفوا به قصر الزهراء من الأوصاف التي أوجها جيرول دوبرانجه فيما يأتي:
كان يزين ذلك القصر 4300 عمود من الرخام الثمين الكامل الصنع، وكانت رداهه مبلطة بقطع من الرخام المنقوش بمهارة على ألف شكل، وكانت حواجز هذه الرداه مغطاة بالمرمر ومزخرفة بالأفاريز ذات الألوان الباهرة، وكانت
شكل 6 - 16: قاعة بني سراج في قصر الحمراء (من تصوير مورفي).
سقوفه ذات نقوش ذهبية لازوردية متشابكة، وكانت جسور هذه السقوف وترابيعها الأزلية دقيقة متقنة الصنع، وكان في بعض رداهه عيون عجيبة تصب مياهها الصافية في صهاريج رخامية ذات أشكال منوعة أنيقة، وكان في ردهة الخليفة عين مصنوعة من اليصب ومزينة بإوزة عجيبة من الذهب عملت في القسطنطينية، وكانت الدرة الشهيرة، التي أتحف قيصر الروم عبد الرحمن الناصر بها، تعلو هذه العين، وكانت الحدائق العظيمة ذات الأشجار المثمرة والرياحين قريبة من القصر، وكان في وسط هذه الحدائق، وعلى مكان مشرف منها، قبة الخليفة القائمة على أعمدة رخامية بيض ذات تيجان مذهبة، وكان في وسط هذه القبة حوض كبير من الرخام السماقي مملوء بالزئبق الذي كان يتدفق بشكل عجيب تدفقاً مستمراً، فكانت أشعة الشمس تنعكس
شكل 6 - 17: ليوان في قصر الحمراء بغرناطة.
عليه بما يأخذ بمجامع القلوب، وكان في هذه الحدائق الجميلة حمامات ذات صهاريج رخامية وبسط ورياش حريري ذهبي موشى بصور غريبة طبيعية من الأزهار والغاب والحيوانات، وجلب الرخام الأبيض إلى قصر الزهراء من المرية، والوردي والأخضر من قرطاجة وتونس، وصنعت في سورية، وفي القسطنطينية على رواية، عينه الذهبية المنقوشة، وكان يرى هنالك ما جلبه أحمد الرومي من الصور البشرية المنقوشة، وأمر الخليفة بأن تنصب هنالك صور من الذهب والحجارة الثمينة لاثني عشر حيواناً مصنوعة في المعمل الملكي بقرطبة، فكانت المياه تتدفق من أفواهها تدفقاً مستمراً، وكان سقف ردهة الخليفة مذهباً مؤلفاً من قطع رخامية لامعة مختلفة الألوان، وكانت جدره مزخرفة مثل سقفه، وكان في وسط هذه الردهة حوض رخام عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذه الردهة ثمانية أبواب معقودة على
شكل 6 - 18: داخل قاعة لندرجة في قصر الحمراء.
حنايا من العاج والأبنوس مزينة بالذهب والحجارة الثمينة، قائمة على أعمدة من الرخام المنوع والبلور الصافي، وروى ابن حيان أن قصر الزهراء اشتمل على 4312 سارية مختلفة الحجوم، وأنه جلب 1013 سارية منها من إفريقية و 19 سارية منها من رومة، وأن قيصر الروم أتحف عبد الرحمن بـ 140 سارية منها، وأن بقية السواري أخذت من مختلف بقاع الأندلس وطركونة وغيرها، وضيعت أبواب قصر الزهراء من الحديد أو من النحاس المموه بالذهب والفضة.