الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) رسالة محمد
لم يتكلم محمد عن بعثته إلا بعد بلوغه الأربعين من عمره، فبعد أن كان قائماً يتحنث على جبل حراء، الذي يبعد ثلاثة أميال من مكة، مثل ما كان يفعل في كل سنة، جاء خديجة ممتقعاً وأخبرها، كما روى مؤرخو العرب، بأنه بينما كان تائهاً في الجبل إذ سمع جبريل يقرع أذنيه بقوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل»، كما أخبرها بأن هذا كلام إلهي، وبأنه يشعر في نفسه بقوة نبوية.
ولم تتردد المرأة المطيعة، خديجة، في تصديق بعثة زوجها النبوية، وانطلقت إلى ابن عمها ورقة، وكان على جانب من العلم، وقصت عليه ما سمعت، فقال:«قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه لنبي هذه الأمة.»
ورجعت خديجة إلى محمد، وأخبرته بقول ورقة، واطمأنت نفسه، فطاف بالكعبة سبع مرات، ثم انصرف إلى منزله، ثم تواتر الوحي عليه كما ذكر أبو الفداء.
ولم ينذر محمد، في السنين الثلاث الأولى من بعثته، غير عشيرته الأقربين الذين كانوا، على العموم، من ذوي النفوذ والوجاهة بسبب مقامهم وأعمارهم، فلما اطمأن إلى جوارهم جهر بدعوته، وأخذ يحمل على الإشراك الذي كان مركزه في بيت آلهة جزيرة العرب المقدس، الكعبة، كما ذكرنا ذلك.
ولم يكتب له التوفيق في بدء الأمر، وكان الناس يسخرون منه، ولكن سخرية سدنة الكعبة، قريش، لم تلبث أن انقلبت إلى غضب على محمد، وتهديد له ومن والاه بالقتل.
ولم يفل ذلك من عزم محمد، وقد قال، كما ذكر أبو الفداء:«لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر.»
هنالك فكرت قريش في اضطهاد محمد، ولم يمنعها من القضاء عليه غير ما تعودته الأسر العربية من إجارة أبنائها، وما كانت تراه من تعريض قريش لأثار عشيرة محمد الأقربين الكثيرين.
ولذلك أمكن محمداً أن يواصل دعوته، وأن يزيد عدد أصحابه من غير أن يصيبه أذى كبير، ثم هاجر هؤلاء الأصحاب إلى الحبشة، لما لم يلاقوا من جوار كما لاقى محمد.
وروى مؤرخو العرب أن ملك الحبشة سأل هؤلاء المهاجرين عن دينهم الجديد، فأجابه جعفر ابن عم محمد بما يأتي:
كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا.
وكان محمد يقابل ضروب الأذى والتعذيب بالصبر وسعة الصدر، وكان في كل يوم يجتذب أصحاباً آخرين ببلاغته، والتجأ محمد إلى عمه أبي طالب في الجاه الكبير راغباً في السلامة.
ومضت عشر سنين ومحمد لم يفتر ثانية عن الدعوة إلى دينه، فلما بلغ الخمسين من عمره أصيب بمصيبتين كبيرتين: وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه، ووفاة زوجته خديجة التي كان أقرباؤها من الأعيان النافذين.
وترك النبي مكة حين أضحي غير قادر على مقاومة أعدائه، وذهب إلى الطائف القريبة، ودافع أمام أهليها عن صدق بعثته، ولم يصغوا إليه، فاضطر إلى العودة.
ولم يلبث الأمر أن تبدل، ولم يلبث الزمن أن تبسم لمحمد بعد عبوس، فقد اغتنم محمد موسم الحج، ودعا إلى دينه أناساً من اليمن كانوا ينظرون إلى مكة بعين الغيرة، وكانوا ينتظرون، كما شاع بينهم، ظهور نبي، وقد استهواهم حديث النبي، واعتقدوا أنه هو النبي المنتظر، وقد حدثوا بذلك أهل يثرب التي كانت تأكلها الغيرة من مكة أيضاً، وقد جاءه من هؤلاء رجال كثير؛ ليستمعوا إلى دينه البسيط الواضح، فلم يطلب منهم غير الإيمان بإله واحد وبالآخرة حيث يجازي الأشرار ويكافأ الأبرار، وغير إطاعة أمر الله، والصلاة صباح مساء مع الطهارة بالوضوء والتحلي بجميع الفضائل، والإقرار بأن محمداً رسول الله وإطاعته، وقد أخذ هذا الدين بمجامع قلوبهم؛ فآمنوا به وصدقوه وبايعوه، ثم انصرفوا للدعوة إلى دينه.
ولما علمت قريش ما أصاب محمد من النجاح غضبوا وسخطوا، وهم الذين لم يستطيعوا أن يغضوا على دين جديد قد يضر بمصالحهم، فأتمروا بمحمد ليقتلوه.