الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) الأدبُ العربيُّ
(3 - 1) الشعر عند العرب
لا يزال أمر الأدب القديم في اليمن وفي مختلف أجزاء جزيرة العرب المتمدنة مجهولاً لدينا تماماً، وما علمناه من أشعار العرب قيل بعد المسيح وقبيل ظهور مُحَمَّد، ولم تكن هذه الأشعار في غير الغزل وتمجيد الملاحم، وكان العرب يحبون أن يسمعوا شعراءهم يُشيدون بمفاخرهم كما كان الأغارقة في عصر البطولة.
وتبدأ تلك الأشعار، في الغالب، بالتصوير والتشبيه، شأنُ شعرِ الأمم الفطرية التي تُحِسُّ كثيراً وتفكر قليلاً، وتختلف تلك الأشعار عن الشعر الإسرائيلي كثيراً في خُلُوِّها من التكهن والدُّجُون والتغني بسفك الدماء، ولا تجد فيها ذكراً لمثل المجازر الوحشية والمذابح والإبادات ولعنات الرب الدائمة التي مُلِئت بها التوراة.
ونال الشعراء نفوذاً كبيراً بفضل حب العرب للشعر، فكان الشعراء يحركون المشاعر، ويرفعون أقوامًا ويخفضون آخرين كما يشاؤون، وكان من نفوذهم أن مَنَحَت قريشٌ الشاعر الأعشى مائة جملٍ حَمْلاً له على عدم نشر قصيدة مَدَحَ النبيَّ بها.
وكان من عبادة العرب للشعر ما أقاموا معه، قبل محمد بعدة قرون، مؤتمرات أدبية يقصدونها من جميع نواحي جزيرة العرب، وكانت هذه المؤتمرات تقوم في مدينة عكاظ الصغيرة القريبة من الطائف والبعيدة من مكة مسافة ثلاثة أيام، وكانت القصائد التي تنال الحُظْوَة فيها تُكتب بحروف من ذهب على نسائج ثمينة وتعلَّق في الكعبة بمكة لتُنْقَل إلى الأعقاب.
وبلغ الشعر العربي الذروة في القرن الذي سبق ظهور محمد، ونشأ عن ذلك أن صارت لغة الشعراء الفصحى عامَّةً، وأن صُهرت لهجات بلاد العرب المختلفة في لغة واحدة.
وانتهت إلينا المعلقات السبع بفضل حفظ أهم أشعار العرب في الكعبة، ويُرى في المعلقات السبع وَصفٌ لحروب العرب، ولحياة البادية الجافية القاسية، ولمغامرات الأعراب
…
إلخ.
وإنني أقتطف الأبيات الآتية من معلقة طَرَفة التي وَصَف بها الحياة وصفاً لا أرى أكثر الفلاسفة ارتياباً يضيف إليه شيئاً كبيراً، قال طرفة:
كريم يروي نفسه في حياته
…
تعلم إن متنا غداً أينا الصدي
أرى قبر نحام بخيل بماله
…
كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى جثوتين من تراب عليهما
…
صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر ينفذ
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه
…
ومن يك في حبل المنية ينقد
وتَقْرَبُ من تلك الأفكار الممتازة أنشودة حرب جاء بها بلغريق من نجد، ولم يُعرف زمن قَرْضَها، فمنها يبدو للقارئ بوضوح، كما يبدو له من القصيدة السابقة، ماذا كان يَجُول في خاطر المحارب العربي، وإليك تلك القصيدة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
…
من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
…
على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبراً
…
فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز
…
فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
…
فداعيه لأهل الأرض داعي
وما للمرء خير من حياة
…
إذا ما عد من سقط المتاع
وداوم العرب على قَرْضِ الشعر دوامَ حضارتهم، وإن لم يَسْبِقوا المستوى الذي وُصِل إليه قبل النبي، وكان يَقْرِض الشعرَ كل رجل مثقف، سياسياً كان أو فلكياً أو طبيبًا، ولم يكن لغوًا قول بعضهم:«إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أممُ العالم مجتمعةً» ، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظماً، ومن يُطالع قصصهم يَرَ أكثرها ممزوجاً بقِطعٍ شعرية.