الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات
(3 - 1)(المعارف الصناعية)
لم يُهمل العربُ أمر التطبيقات الصناعية مع قيامهم بمباحثهم النظرية، وكان لصناعات العرب تفوُّقٌ عظيم بفضل معارفهم العلمية، ونعلم ما أدت إليه صناعاتهم من النتائج، وإن جَهِلنا أكثر طرقها، فنعرف، مثلاً، أنهم كانوا يعلمون استغلال مناجم الكبريت والنحاس والزئبق والحديد والذهب، وأنهم كانوا ماهرين في الدِّباغة، وفي فن تسقية الفولاذ، كما تشهد بذلك نصال طليطلة، وأنه كان لنسائجهم وأسلحتهم وجلودهم وورقهم شهرةٌ عالمية، وأنه لم يسبقهم أحد في كثير من فروع الصِّناعة إلى عصرهم.
ونرى، بين اختراعات العرب، ما لا يجوز الاكتفاء بذكره لأهميته، كاختراعهم للبارود مثلاً، ولذا فإننا نقول بضعَ كلماتٍ فيه:
بارود الحرب والأسلحة النارية
استعملت أممُ آسية أنواعَ المركبات المُحرقة في حروبها منذ القرون القديمة، ولكن أوربة لم تَعرِف هذه المركَّبات إلا في القرن السابع من الميلاد، ويُظَنُّ أن الذي نقلها من آسية هو مهندس معماريٌّ اسمه كالينيك، واستفاد البيزنطيون استفادةً عظيمة من هذه المركبات في دحْر العرب حينما وضعوا نطاقاً أمام القسطنطينية، وأمر القيصر قسطنطين بورْفِيرُو جِينيت بعَدِّها من أسرار الدولة وإن لم تَلْبَث أن كُشِفَت، وأسفرت مباحث رينو وفافيه عن القَطْع بأن هذه المركبات التي وُصِفَت في كثير من المخطوطات القديمة مؤلفةٌ من الكبريت، وبعض المواد الملتهبة كبعض الراتنجات والأدهان.
ولَسُرعان ما عَرَف العرب تركيب النار اليونانية، وبلغت هذه النار من الانتشار عندهم ما صارت معه «عامل الهجوم المهِمَّ» كما قال ذانك المؤلفان، وتَفَنَّنَ العرب في استخدامها، والقذف بها بشتى الطرق، وليس بمجهولٍ خبرُ الرُّعب الذي ألقته في قلوب الصليبيين فوَرَدَ ذكره في أحاديثهم، ومن ذلك أن أعلن جوَانفيلُ أنها أفظع شيء رآه في حياته، وأنها ضربٌ من التَّنانِين الكبيرة الطائرة في الهواء، ولما أصبح جوانفيل في جوار الملك سان لويس:«رَكَع ورفع يديْه إلى السماء وقال باكياً: أي ربنا يسوع احفظنا واحفظ قومنا! »
شكل 5 - 3: أسلحة نارية استعملها العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد (ترى في هذه الصورة مدفعياً حاملاً بيده مدفعاً صغيراً مقرباً إياه من لهب لإشعال النار وقذف القنبلة، من ذلك المخطوط العربي القديم المحفوظ في بطرسبرغ).
ولا يخلو هذا الفزع من وهم، أي أن النار اليونانية إذا كانت نافعةً في المعارك البحرية للقضاء على سفن العدو فإنها لم تكن كذلك في البر، ولم يَرْوِ أحدٌ من المؤرخين أنها أَوْدَت بحياة أحدٍ من رجال سان لويس أو غيرهم في البر، وأطبقت النار اليونانية على سان لويس، وكثير من فرسانه من غير أن تصيبهم بأذى، فالنار اليونانية، وإن كان من طبيعتها التحريق، لم تصلُح للرَّشق، وهي، وإن كان يُقذَف بها، لم تنفع لرَمْي القذائف، وهي، وإن كانت من المحترقات، لم تكن لها خواص البارود في الانفجار.
وعُزِيَ اختراعُ البارود إلى روجر بيكن زمناً طويلاً، مع أن روجر بيكن لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركَّبات القديمة، ولا سيما ما وصفه منها مَرْكُوس غَراكُوس في مخطوط كُتِبَ في سنة 1230 م بعنوان «كتاب النار لإحراق الأعداء، والحقُّ أن كثيراً من هذه المركبات يشابه تركيب البارود، ولكنه كان يُستعمل في الأسهم النارية فقط، وهو مقتبس من العرب، لا ريب، كجميع المُرَكَّبات الكيماوية في القرون الوسطى. والعرب هؤلاء قد عَرَفوا الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل كما يأتي بيانه.
وأثبتت مباحث مسيو رينو ومسيو فافية، وقد سبقهما إليها الغزيريُّ وأنْدرِه وفيَارْدُو، أن العرب هم الذين اخترعوا بارود المدافع السهل الانفجار الدافعَ للقذائف، وبيان ذلك: أن ذينك المؤلفين رَأيا في بدء الأمر كما رأى غيرُهُما، أن أمر هذا الاختراع يعود إلى الصينيين، وأنهما رَجَعا في مذكرة ثانيةٍ نشراها سنة 1850 م، وذلك بعدما
اطلعا على ما جاء في بعض المخطوطات التي عُثِر عليها حديثاً، عن رأيهما مُعْلِنَين أن العرب هم أصحاب هذا الاختراع العظيم الذي قَلَبَ نظام الحرب رأسًا على عَقِب، ومما قاله ذانك المؤلفان: «إن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود واستعملوه في النار الصناعية
…
وأن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة، أي أن العرب هم الذين اخترعوا الأسلحة النارية.»
وجرى المؤرخون على الرأي القائل: إن المعركة الأولى التي استُعملت فيها المدافع هي معركة كريسي التي حدثت سنة 1346 م، والحقيقة هي ما أثبته مؤرخو العرب في مؤلفاتهم من النصوص الكثيرة التي تدل على أن استعمال المدافع وقع قبل تلك السنة بزمن طويل، ومن ينظر إلى المختارات المقتطفة من المخطوطات التي ترجمها كونده يَجِدْ، على الخصوص، أن الأمير يعقوب حاصر زعيم ثُوَّار في مدينة المهدية بإفريقية في سنة 1205، وأنه ضرب أسوارها بمختلف الآلات والقنابل
…
أيضربها بآلات لم يَرَها الناس قبل ذلك
…
فكانت كل واحدة منها تَرمِي قذائفَ كبيرةً من الحجارة وقنابلَ من الحديد، فتسقط في وسط المدينة.»
شكل 5 - 4: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير إيبر).
ونرى ذلك صريحاً في تاريخ ابن خلدون عن البربر حيث ذَكَر استعمال المدافع في الحِصار بقوله: «ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وجَّه عزمه إلى افتتاح
سجلماسة (682 هـ/1273 م) من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها، وإدالةِ دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجبٍ من سنة اثنتين وسبعين، فنَازَلها وقد حَشَد إليها أهلَ المغرب أجمع من زناتةَ والعربِ والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونَصَبَ عليها آلات الحصار من المجانيق والعَرَّادَات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خِزانةٍ أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترُدُّ الأفعال إلى قدرة بارئها، فأقام عليها حَوْلًا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلةٍ طائفةٌ من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد فدخلوه عَنوةً من تلك الفُرجة.»
وتُثْبِت مخطوطاتُ ذلك الزمن أن الأسلحة النارية شاعت بين العرب بسرعة، وأنهم استخدموها للدفاع عن مدينة الجزيرة التي هاجمها الأذفونش الحادي عشر سنة 1342 م.
شكل 5 - 5: قطعة من نسيج عربي قديم.
وجاء في تاريخ الأذفونش الحادي عشر: «أن مغاربة المدينة كانوا يقذفون كثيراً من الصواعق على الجيش فيرمون عليه عِدَّة قنابل كبيرة من الحديد كالتفاح الكبير، وذلك إلى مسافة بعيدة من المدينة، فيمرُّ بعضها من فوق الجيش، ويسقط بعضها عليه.»
وحضر كونت دربي وكونت سالسبري الإنكليزيان ذلك الحصار، وشاهدا نتائج استخدام البارود، ونقلا ذلك الاختراع إلى بلادهم من فَوْرِهم، واستخدمه الإنكليز في معركة كريسي بعد ذلك بأربع سنين.
وتجد في المخطوطات العربية بياناً لتركيب ما كان العرب يستخدمونه من البارود والأسلحة النارية، وإليك النص الطريف الذي ورد في مخطوطٍ كُتِبَ في أواخر القرن الثالث عشر من الميلاد فترجمه رينو:
وصفٌ للذخيرة التي تُدَكُّ في الِمدفع مع بيان نسبتها: تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف درهم من الكبريت، وتُسحَق حتى تصبح كالغُبار، ويُملأ منها ثلث المدفع فقط خوفًا من انفزاره، ويصنع الخرَّاط من أجل ذلك مِدفعاً من خشبٍ تناسب جسامتُه فَوْهَتَه، وتُدكُّ الذخيرة فيه بشدة، ويُضاف إليها إما بندقٌ، وإما نَبْلٌ، ثم تُشعَل، ويكون قياس المدفع مناسباً لثقبه، فإذا كان عميقاً أكثر من اتساع الفَوْهَة بدا ناقصاً.
شكل 5 - 6: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير بريس الأفيني).