الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يمكن حمله على إظهار سَرَائِره، وقد يستعان بالحشيش في الأحوال الخطرة؛ فيعترف به بعض المجرمين بذنوبهم، ويُجتَنَب الخطأ القضائي بذلك.
(5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون
…
إلخ
تختلف ألعاب العرب قليلاً عما نعرفه في أوربة، فلعبة الشطرنج ولعبة النرد ولعبة الدامة مما ألفه العرب، والمصارعة والرماية ولعبة الكرة، والمسايفة ولعبة الصولجان مما هو شائع بين العرب، ولعبة الرمح، وسباق الخيل من أكثر ما يولَع به الأعراب.
والتمثيل من وسائل التسلية عند الشرقيين أيضاً، ولكن الممثلين في الشرق يكونون من اللُّعَب في الغالب، أو، كما رأيتُ بنفسي، من الأشخاص الذين لم يَحذِقوا فن التمثيل أحياناً فيُلقُون فصولهم برصانة كالقارئ من غير أن تَمُتَّ أوضاعهم بصلةٍ إلى حقيقة ما يرغبون في الإعراب عنه من العواطف.
ويتذوَّق الشرقيون الموسيقا والأغاني كثيراً، وقلما تدخل قهوة شرقية من غير أن تسمع فيها ما لا يروق الأوربيين من ألحان الرباب والكمان والمزمار الحادة المحزنة.
ويُعَدُّ الرقص في الشرق من الأمور التي يقوم بها أشخاص مأجورون، ويَحْمَرُّ وجه العرب خجلاً من الرقص العلني الذي يشابه رقص الأوربيين في الرِّداه العامة، وليس مما يلائم الذوق السليم عند العرب أن يَرقُص رجل مُتزن في المسرح على أنغام آلات الطرب.
والنساء اللائي يُلَقبن بالعوالم هن اللاتي يرقصن في الشرق، والرَّقَصَات التي رأيتها في مدن آسية وإفريقية ومصر العليا أقل من شهرتها، وتتألف هذه الرَّقَصات من حركة البطن والخصر دون بقية البدن، ورقصة السيف التي شاهدتها ليلاً حول وَقْدَةٍ في أريحا من أروع تلك الرَّقَصَات، فقد اشتركت فيها فلاحات شاهرات سيوفاً رفيعةً كُنَّ يُدِرْنَهَا حول رأسي زاعقاتٍ في أذِي على حين كانت الراقصاتُ الأخر يغنين أغانٍ يمتدحن فيها ما يَفْتَرِضْنَ وجوده في الضيف من الجاه والصيت والكرم، وكُنَّ يقلنَ مثلاً: إنه قهر أعداءه، وإن ذراعه لا تَنْثَنِي، وإن فرائص أقوى الشجعان ترتعد فَرَقاً حين سماع صوته
…
إلخ، وتتجلى مهارة الراقصات في مَسِّهِنَّ بالسيوف رأس الضيف الكريم من غير أن يَجْرَحْنه، وقد حاولتُ عَبَثاً أن أحمِل أولئك الفَتَيات الأعرابيات على إبداء ذلك الحِذْق فوق رءوس أبناءِ قومهن، مع أن الشيخ المفوَّض إليه أمرُ حراستي أخبرني بأن من النادر إصابةَ أحدٍ من ذلك بأذى.
شكل 2 - 9: نارجيلة عربية مصنوعة من النحاس المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولم يبقَ لعوالم مِصر العليا ما كان لهن في غابر الأزمان من رَوْنَقٍ وبهاء، واللباس الذي يَلْبَسْنَه أمام الجمهور هو جِلبابٌ طويلٌ يَفقِدْن به كلَّ رَوعةٍ، ولكنهن إذا ما كن بين الخُلَّان خلعنه بسهولةٍ، ورقصن لابساتٍ ثوباً بسيطاً كالذي تَعزُوه القصة إلى حواء.
وأعُد قصص العجائب التي يتلوها القاصُّون المحترفون من أهم وسائل التسلية عند العرب، وهؤلاء القاصون منتشرون في أنحاء الشرق، ولهم حُظوةٌ كبيرة في كل مكان، ويقص القاصون القصص ارتجالاً في بعض الأحيان، ويقتصرون في الغالب على إنشاد قصيدةٍ أو تلاوة قصَّةٍ من رواية ألف ليلة وليلة، ولا أزال أذكر أنني زُرت حياً من أحياء يافا الشعبية ذات ليلةٍ، فشاهدت فيه جَمعاً عربياً من الحمَّالين والنَّواتي والأجُراء
…
إلخ، يستمعون على نور مصباحٍ إلى قصة عنترة بعناية، فتراني أشكُّ في نَيْلِ قاصٍّ مثل ذلك النجاح لو أَنْشَد جماعةً من فلاحي فرنسة ما تَيَسَّر من شعر لامارتين أو شاتوبريان.
شكل 2 - 10: نارجيلة فارسية عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
شكل 2 - 11: دكان صانع أسلحة عربي في سورية (من صورة فوتوغرافية).
وندرك ناحيةً من أخلاق العرب بما نراه من تأثير القاصِّين في الجمهور العربي الذي نعلَم أنه ذو حيوية مع وَقار، وقوة خيالٍ مع تمثيل، والذي يَبدو أنه يرى ما يَسمع، والذي يبلغ من فَرْطِ التأثُر ما يَظهر أنه يَسْمَعُه حقاً.
قال أحد السياح صارخاً: «ليَنظر الإنسان إلى أبناء الصحراء أولئك حينما يستمعون إلى قصصهم المفضلة، فهو يرى كيف يضطربون وكيف يهدأون، وكيف تَلْمَع عيونهم في وجوههم السُّمر، وكيف تنقلب دَعَتُهم إلى غضب وبكاؤهم إلى ضحك، وكيف تقف أنفاسهم ويستردونها، وكيف يقاسمون الأبطال سراءهم وضراءهم، حقاً إن تلك لروايات وإن الحاضرين لممثلون أيضاً، وحقاً إن الشعراء في أوربة، مع نفوذ أشعارهم وسحر بيانهم وجمال وصفهم، لا يؤثِّرون في نفوس الغربيين الفاترة عُشْرَ مِعشار ما يؤَثِّر به في نفوس سامعيه ذلك القاصُّ الذي هو من الأجلاف، فإذا ما أحُيط ببطل الرواية ارتجف السامعون وصرخوا قائلين: «لا! لا! حفظه لله! » وإذا ما كان في حَوْمَة الوَغَى محارباً كتائب أعدائه بسيفه أمسكوا سيوفهم كأنهم يريدون إنجاده، وإذا ما كاد يذهب فريسة الغدر والخيانة قَطَّبوا وصرخوا قائلين:«لعنة لله على الخائنين! » ، وإذا ما قضى عليه أعداؤه الكثيرون تأَوَّهوا وقالوا:«تَغَمده لله برحمته وفسح له في دار السلام! » وإذا ما كان العكس فرَجَع ظافراً منصوراً هتفوا قائلين: «المجد لرب الجُنْدِ! » ويكون هتافهم وقتما يذكر القاصُّ محاسن الطبيعة ولا سيما الربيع: طيب! طيب! » ولا شيء يعدل السرور الذي يبدو على ملامحهم عندما يصف القاص امرأةً جميلةً، فتراهم ينصتون له إنصات من يكاد لُبُّه يطير من الوَجْد، وإذا ما أَتمَّ وصفَه قائلًا: «الحمد لله الذي خلق المرأة! قالوا قول المعجب الشاكر: «الحمد له الذي خلق المرأة!
(6)
الرِّق في الشرق
تثير كلمة «الرِّق» في نفس الأوربي، القارئ للقصص الأمريكية منذ ثلاثين سنة، صورة أناس يائسين مُقرَّنين في الأصفاد، مَقُودين بالسياط، رديئي الغذاء، مقيمين بمظلم المحابس.
ولا أبحث هنا في صحة صورة الرق هذه عند الأنغلو أمريكيين منذ بضع سنين، ولا في صحة تفكير صاحب رقيقٍ في إيذاء مالٍ غالٍ كالزنجي والقضاء عليه، وإنما الذي أراه صدقا هو أن الرق عند المسلمين غيرُه عند النصارى فيما مضى، وأن حال الأرقاء،
شكل 2 - 12: بائعون جائلون في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).
في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربة، فالأرقاء في الشرق يؤلفون جزءاً من الأسُر، ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحياناً كما رأينا ذلك سابقاً، ويقدِرون أن يَتَسَنَّموا أعلى الرُّتب، وفي الشرق لا يرون في الرق عاراً، والرقيق فيه أكثر صلةً بسيده من صلة الأجير في بلادنا.
واعترف جميع السياح الذين درسوا الرق في الشرق درساً جِدياً بأن الضجة المُغْرِضَة التي أحدثها حوله بعض الأوربيين لا تقوم على أساسٍ صحيح، وأحسن دليل يقال تأييداً لهذا هو أن الموالي الذين يرغبون في التحرر بمصر ينالونه بإبداء رغبتهم فيه أمام أحد
شكل 2 - 13: كاتب عرائض في القدس (من صورة فوتوغرافية).
القضاة، وأنهم لا يلجأون إلى حقهم هذا، قال مسيو إيبِر مشيراً إلى ذلك:«يجب عَدُّ الرقيق في بلاد الإسلام مَبْخُوتاً على قدر الإمكان.»
ومن السهل أن أكُثر من اقتباس الشواهد على صحة ذلك، ولكنني أكتفي بذكر الأثر الذي أوجبه الرق في الشرق في نفوس المؤلفين الذين أتُيح لهم درسه في مصر حديثاً، قال مسيو شارم:«يَبدو الرق في مصر أمراً ليِّناً هيناً نافعاً منتجاً، ويُعد إلغاؤُه فيها مصيبة حقيقية، ففي اليوم الذي لا يستطيع وحوش إفريقية الوسطى أن يبيعوا فيه أَسْرَى الحرب، ولا يَرَون فيه إطعامهم، لا يُحجِمون عن أكلهم، فالرِّق، وإن كان لطخةَ عارٍ في جبين الإنسانية، أفضلُ من قتل الأسَرى وأكل لحومهم إذا ما نُظِر إليه من وجهة نظر هؤلاء الأسرى، وذلك على الرغم من رأي مُحبي الإنسانية من الإنكليز الذين يقولون: إنه أجدر بكرامة الزنوج أن يأكلهم أمثالهم من أن يسودهم أجنبي! »
وقال مدير مدرسة اللغات في القاهرة مسيو دو فوجانى: «ترى الأرقاء الذين يستفيدون من الحرية الممنوحة لهم قليلين إلى الغاية مع أن هذه الحرية تسمح لهم بأن يعيشوا كما يشاءون من غير إزعاج، فالأرقاء يُفَضلون حال الرق السالم من الجَور على حال القلق الذي يكون مصدرَ آلامٍ ومتاعب لهم في الغالب» .
وليست مصر القطرَ الوحيد الذي يُعَامَل فيه الأرقاء برفق عظيم، أي أن ما تراه في مصر تَرَى مثلَه في كل بلد خاضع للإسلام، واسمع ما قالته السيدة الإنكليزية بِلَنْتُ في كتاب رِحلتها في بلاد نجد ذاكرةً محادثتها لعربي:
«إن مما لم يستطع أن يفهمه ذلك العربي هو وجود نفع للإنكليز في تقييد تجارة الرقيق في كل مكان، ولما قلتُ له إن مصلحة الإنسانية اقتضت ذلك» أجابني: «إن تجارة الرقيق لا تنطوي على جَور، ومن ذا الذي رأى إيذاء زِنْجِي؟ » والحق أننا لا نزعم أننا رأينا ذلك، ومن الأمور المشهورة أن الأرقاء عند العرب يكونون من الأبناء المُدلَّلين أكثر من أن يكونوا من الأجُراء.
ولا شيء يستحق الذم واللوم كالرق، ولكن المبادئ التي صنعها الإنسان ذات شأن ضعيف في سير الأمور، وإذا ما نظر المرء إلى الرق بمنظار الزنجي المخلوق المنحط وَجَده أمراً طيباً، فلا شيء أصلح لهؤلاء المخلوقات الضعيفة الفطرية القليلة الحذر والتبصر من أن يكون لها سيد يرى من مصالحه أن يقوم بشؤونها، ودليلنا على هذا ما أصاب أرقَّاء أمريكة من الانحطاط المُحزِن الذي نشأ عن تحريرهم بعد حرب الانفصال، وإلقاء حِبالهم على غَوَاربهم.
ويتطلب منعُ النِّخاسة منعَ البحث عن الأرقاء كما يزعم الإنكليز أنهم يفعلون، أي تبديلَ طبائع الشرق كله، وتغيير بقية العالم بعض التغيير، ولم ينشأ عن تدخل الأوربيين القائم على الرياء والمداجاة فيما لا يَعنيهم سوى الفشلِ ومقتِ الشرقيين لهم.
قال المؤلف الإنكليزي «ج. كُوبِر» في كتاب حديث دَرَسَ فيه أمر النخاسة في إفريقية: «لم تكن الحملات التي جُرِّدت على تجار الرقيق في السودان إلا من نوع الغَزَوات التي
شكل 2 - 14: سقَّاءان في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
تُضِيفُ إلى المذابح مذابحَ أخرى، أجل، لقد قَضَتْ تلك الحملات على بعض مراكز أولئك التجار، ولكن هذه المراكز لم تلبث أن أعيد تأسيسها بعد انصراف تلك الحملات، ولم يَنْجُم عن النفقات العظيمة والدماء المسفوكة فيها كبير طائل، ولم تُؤَدِّ إلى تقييد النِّخاسة.»
ولا ريب في أن الأوربيين الذين يتدخَّلون في أمور الشرق لمنع النِّخاسة قسراً من محبي الإنسانية الصالحين، ومن ذوي النِّيَّات الطيبة الخالصة، ولكن الشرقيين لا يعتقدون صدقهم، وحُجة الشرقيين في ذلك هو أن أولئك المحبين للإنسانية الصالحين والراحمين للزنوج هم الذين أَكرهوا الصينيين بقوة المدافع على أن يُدخِلوا إلى بلادهم ذلك الأفيون الذي أهلك من الناس في سنة واحدة ما لم تُهلكه تجارة العبيد في عشر سنين.