الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
تمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب
(1) تأثير العرب في الشرق:
خضع الشرق لكثير من الشعوب، كالفرس والأغارقة والرومان
…
إلخ، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي إذا كان عظيمًا دائمًا فإن تأثيرها المدنيَّ كان ضعيفاً عموماً، وإذا عَدَوْتَ المدن التي كانت تملكها هذه الشعوب رأساً رأيتَها لم تُوَفَّق لِفَرض دينها ولغتها وفنونها، ومن ذلك أن ظلَّت مصر الثابتة في زمن البطالمة وفي زمن الرومان وفيَّةً لماضيها، وكان ما تعلم من اعتناق الغالبين لديانة المغلوبين ولغتهم وطِراز بنائهم فيها، وكان ما تَعْرِف من إقامة البطالمة لمبانيهم التي رمَّمَها القياصرة، على الطراز الفرعوني.
وما عجز الأغارقة والفرس والرومان عنه في الشرق قَدَرَ عليه العرب بسرعة ومن غير إكراه، ومن ذلك أن مصر، التي كان يلوح أنها أصعب أقطار العالم إذعاناً للمؤثرات الأجنبية، نسيت، في أقل من قرن واحد مرَّ على افتتاح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها الذي دام نحو سبعة آلاف سنة معتنقة ديناً جديداً ولغة جديدة وفناً جديداً اعتناقاً متيناً دام بعد تواري الأمة التي حَمَلتها عليه.
ولم يُغيِّر المصريون دينهم سوى مرة واحدة قبل العرب، وذلك حين خرَّب قياصرة القسطنطينية بلاد مصر بتحطيمهم جميع آثارها أو تشويهها وجعلهم القتل عقوبة من يخالف حظر عبادة آلهتها الأقدمين، وهكذا عانى المصريون ديناً جديداً فُرِض عليهم بالقوة أكثر من اعتناقهم له، وما كان من تهافت المصريين على نَبْذِ النصرانية ودخولهم في الإسلام يُثبت درجة ضَعف تأثير النصرانية فيهم.
وما وُفِّق العرب له في مصر من التأثير البالغ اتفق لهم مثلُه في كل بلد خَفَقَت فوقه رايتهم كإفريقية وسورية وفارس
…
إلخ، وبلغ نفوذُهم بلادَ الهند التي لم يدخلوها إلا عابري سبيل، وبلغ بلادَ الصين التي لم يزوروها إلا تجاراً.
شكل 10 - 1: مقدم قصر شقوبية في الوقت الحاضر (من صورة فوتوغرافية)
ولا نرى في التاريخ أمةً ذات تأثير بارز كالعرب، وذلك أن جميع الأمم التي اتصل العرب بها اعتنقت حضارتهم، ولو حينًا من الزمن، وأن العرب لما غابوا عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم كالترك والمغول
…
إلخ، تقاليدهم، وبَدَوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكن العالم لا يعرف اليوم غير دين أتباع النبي ولغتهم في البلاد الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى السند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء.
ولم يتجلَّ تأثير العرب في الشرق في الديانة واللغة والفنون وحدها، بل تجلى في ثقافته العلمية أيضاً، ومن ذلك أن المسلمين كانوا ذوي صلاتٍ مستمرة بالهند والصين، وأنهم نقلوا إليهما قسماً كبيراً من المعارف العلمية التي عدَّها الأوربيون من أصل هندوسي أو صيني فيما بعد، وقد أصاب سيديُّو في توكيد هذا الأمر فذكر -على سبيل المثال- أن العربي البيروني المتوفى سنة 1031 م أتحف الهندوس، في أثناء سياحته
في بلادهم، بمختاراتٍ مهمة من كتب العلم فنقلوها بعدئذ نَظْماً إلى السنسكريتية على حسن عادتهم.
شكل 10 - 2: قصر شقوبية، وقد أقيم على الطراز الإسباني (من رسم قديم لوايزنر)
ويجب ألا تستنبط من هذا القول نتائج واسعة، فإذا كان العرب أفضل من الهندوس علماً، كما هو واضح، فإنهم دونهم فلسفة وديانة، فليس في عامية القرآن ولاهوتيته الصبيانية، التي هي من صفات الأديان السامية أيضاً، ما يقاس بنظريات الهندوس التي أتيح لي أن أبُيِّن عمقها العجيب في كتاب آخر.
ويظهر أن ما اقتبسه الصينيون من العرب أهمُّ مما أخذه الهندوس عنهم، وقد بينا في فصل سابق أن علوم العرب دخلت الصين على أثر الغارة المغولية، وأن الفلكي