الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ردهة السفراء، هما من أروع رداه القصر الأشبيلي، وتعد ردهة السفراء هذه من العجائب بغير ما أضيف إليها من الزخرف الرخيص، وإذا استثنينا مباني دمشق العربية وبعض مساجد القاهرة العربية لم نر في غير القصر الأشبيلي تلك السقوف المغطاة بالخشبان المحفورة المطلية المذهبة التي يفتخر أثمن قصورنا باشتماله على مثلها.
والحق أن إشبيلية أكثر مدن إسبانية حياة وتمدنا، وهي نقيض غرناطة التي حافظت على توحش القرون الوسطى، وعلى كرهها الشديد للأجانب.
(4 - 4) المباني العربية في غرناطة
تتجلى عظمة فن العمارة العربي الأندلسي في قصر الحمراء الذي أنشئ في القرن الرابع عشر من الميلاد.
أقيم قصر الحمراء على منحدر جبل شلير الذي يشرف على مدينة غرناطة وعلى المروج الواسعة الخصيبة، والذي يعد من أجمل أمكنة العالم.
وإذا ما نظر المرء إلى الحمراء من أسفل الصخور التي تتوجها رآها أبراجاً مربعة ذات ألوان قرمزية يناطح أعلاها السحاب، ويسفر أدناها عن نبات أخضر كثيف، وإذا ما مر المرء من تحت الأشجار التي تحف بها ومع تغريد الطيور التي عليها وخرير الماء الذي يجري في السواقي والقنوات القريبة منها، فدخل ذلك القصر الشهير رأي ما تغنى به الشعراء، ولا سيما صاحب المشرقيات (فكتور هوغو) الذي أنشد قائلاً:
أيتها الحمراء! أيها القصر الذي زينتك الملائكة كما شاء الخيال، وجعلتك آية الانسجام! أيتها القلعة ذات الشرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان والمائلة إلى الانهدام! حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جدرك من خلال قناطرك العربية يسمع للي في الليل صوت يسحر الألباب.
ويتعذر وصف الحمراء بوصف دقيق، وقلم الرسم وحده هو الذي يستطيع ذلك، وهو ما نستعين به، وما نشرنا في هذا الكتاب من صور الحمراء يغني عن كل ما يمكن قوله.
وكل ما في قصر الحمراء عجيب، والمرء يقضي العجب من جدرانه المزينة بالنقوش العربية الأنيقة المحفورة المفترضة وأقواسه المصنوعة على رسم البيكارين، وقبابه ذات الزخارف الساحرة المتدلية (المقرنصات) المطلية فيما مضى باللازورد والأرجوان والإبريز.
شكل 6 - 20: جزئيات نافذة في قصر الحمراء.
ولا تشابه الحمراء قصور أوربة مطلقاً، شأن كثير من القصور العربية، فهي عاطلة من المقدم، وتنحصر زخارفها في داخلها الذي نرى كل شيء فيه عجيباً، وإن كان صغيراً، وليس فيها رداه فخمة مملة باردة مثل رداه قصورنا الأوربية رسمت ليعجب بها الزائرون، لا لتلائم ساكنيها.
ويمكننا أن نتمثل حياة ملوك العرب عند النظر إلى الحمراء؛ فالعين لا ترى من نوافذها غير آفاق لا نهاية لها، وهي تثير ذكريات ما كان يحدث في رياضها الغن التي كانت حظايا ملوك غرناطة، وقد كن من أجمل غواني الغرب والشرق، يتفيأن في غياضها ويتنسمن شذا أزاهرها النادرة.
وكان يحف بصاحب تلك العجائب جمع من المتفننين والعلماء والأدباء الذين كانوا أعلام ذلك العصر، وكان لذلك الصاحب أن يعد الملوك الآخرين من الحاسدين له، وكان له أن يكتب على باب قصره كما صنع ذلك الملك الهندي الذي حكت عنه القصة:«إن كان في الأرض فردوس فهو هذا! »
واشتهر أهم أقسام قصر الحمراء بفضل الفوتوغرافية والرسم، فذاع صيت قاعة الأسود وغرفة الأختين وحجرة بني سراج وردهة العدل، والقارئ الذي ينعم النظر في الصور التي نشرناها عن تلك الأقسام في هذا الكتاب يرى أنها ليست دون شهرتها، وانتهت الشهرة إلى قاعة الأسود على الخصوص، قال جيژول دوبرانجه:«يعجز الإنسان عن بيان ما يشعر به حين يمر من قاعة البركة، ويدخل قاعة الأسود فيرى فيها الأروقة التي تزينها الأقواس المنوعة المزخرفة بالنقوش المزهرة والزخارف المتدلية والتخاريم التي كانت ذهبية ملونة، وتقع عينه على غابة من الأعمدة الهيف التي وضع بعضها منفرداً وبعضها مزدوجاً وبعضها مجتمعاً على شكل بديع، فيبصر من خلالها التماع مياه فسقية الأسود المتدفقة.»
وتقول القصة: إن رقاب بني سراج الستة والثلاثين ضربت على تلك الفسقية، وتقول العامة: إنه يشاهد في كل ليلة طيف أولئك القتلى متوعداً متهدداً.
ولا تمت أسود تلك الفسقية إلى أي حيوان بوجه شبه حقيقي، فهي ناقصة الشكل نقصاً قصده المثالون الذين أرادوا بها نوعاً من الزينة.
ويكاد زائرو الحمراء لا يصدقون، أول وهلة، أن زخارف جدرانها منقوشة على الجص، لا على الحجارة، كما هو الأمر في القاهرة والهند، ويرى أولئك الزائرون الذين يتأملون قرن تلك الزخارف وسطها الأملس المصقول أن من المستحيل ألا تكون منقوشة على الرخام، ولم أر أنها من الجص إلا بعد أن حلل لي أحد أعضاء المجمع العلمي، مسيو فريدل، قطعة صغيرة منها.
والجص الممزوج بقليل من المواد العضوية هو، إذن، ما صنعت منه جميع نقوش الحمراء، ولا نستطيع سوى الاعتراف بإتقان صنع ذلك الجص الذي قاوم تقلبات الجو خمسمائة سنة من غير أن يفد، ولا أعتقد أن مهندساً أوربياً في الوقت الحاضر يمكنه أن يعاهد على صنع نوع من الجص يستطيع أن يدوم مثل هذا الزمن الطويل بلا عطب.
ولا يستدل على بقاء جدر الحمراء بملاءمة جو إسبانية لها ما تطرق الفساد إلى أجزائها التي رممت بعد إجلاء العرب بزمن طويل، ويعرف هذا الفساد، بسهولة، من انثلام تلك الأجزاء المرممة وانخفاضها وانتفاخها.
وقص جميع رجال الفن الذين زاروا قصر الحمراء العجيب، والألم ملء قلوبهم، ما لا يكاد العقل يصدقه من أنباء التخريب الفظيع الذي أحدثه الإسبان فيه، فقد هدم شارلكن قسماً مهماً منه لينشئ في مكانه بناءً ثقيلاً، وعدته جميع الحكومات الإسبانية مجموعة من الخرائب القديمة التي لا تنفع لغير الاستفادة من موادها، قال مسيو دفليه في كتابه عن إسبانية:«لقد بيعت ألواح الميناء التي كانت تزين رداه الحمراء منذ بضع سنين لصنع الملاط، وبيع باب مسجدها البرونزي كنحاس عتيق، وحرقت منها أبواب ردهة بني سراج الخشبية الأنيقة كما يحرق الحطب، ثم اخذ من رداهها الجميلة سجون للمجرمين ومخازن للميرة بعد أن بيع ما أمكن نزعه منها.»
وأراد الإسبان تطهير جدران الحمراء المزينة بالنقوش العربية الجميلة، فكسوها طبقة كثيفة من الكلس، ويظهر أن التكليس الذي تساوي في حبه الإسبان والإنكليز هو مما يرغب فيه بعض الشعوب المتمدنة التي لا ترى ما هو أطيب منه للزينة، وهو مما يروق بالتدريج أولئك الأوربيين الذين يرون فيه مظهراً للمساواة ووحدة الشكل المبتذلة.
ولا يمض زمن طويل على تذمر المتفنين من تخريب قصر الحمراء، ونزع أولو الأمر من الإسبان إلى المحافظة على ما بقي من هذا القصر الساحر بعد أن قيل لأهل غرناطة، غير مرة، إنهم يملكون به إحدى العجائب التي تجلب إليهم السياح من كل جانب، فأزيل شيء من الكلس الذي سترت به تلك النقوش العربية، وبدئ بالترميم، والإسبان عاملون على ذلك ببطء لعدم وجود عمال في إسبانية قادرين على إنجاز هذا الترميم الذي يسهل أمره عند النظر إلى النماذج
ويرى بجانب الحمراء قصر عربي آخر يسمى جنة العريف، وقد بالغ الإسبان في تكليس جدران هذا القصر، فصرت لا تستطيع أن تتمثل حالته الأولى، وصار لا يستحق الحماسة التي يصفه بها مطوفو السياح خلا روضته.
وأما مدينة غرناطة فلا أنصح أحداً بأن يزورها بعد أن وصفها شعراء العرب بأنها أنضر مدينة تنالها أشعة الشمس وبأنها دمشق الأندلس.
ولا أقدر أن أصف الحال التي كانت عليها غرناطة فيما مضى، ولكن غرناطة الحديثة لم تكن سوى قرية كبيرة كئيبة قذرة ليس فيها ما يجدر ذكره غير كاتدرائيتها
شكل 6 - 21: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).
شكل 6 - 22: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).
الفخمة وحمرائها، فضلاً عن أنها قائمة على مكان يعد من أجمل أمكنة العالم، ولم تبن بيوتها الحديثة على طراز معروف، وأمعنت في البحث عن زخارفها التي قص أدباء معاصرون مشهورون علينا خبرها فلم أجد لها أثراً.
حقاً لم تكن غرناطة الجديدة سوى مدينة ميتة، ويعرف أهلها بأنهم من الجهلة الثقلاء البعيدين من القرى، وهي نقيض مدينة إشبيلية التي تشاهد فيها مسحة من الحياة، والتي تجد فيها من بائعي الكتب ما لا تجد في غرناطة.
أكتفي بذكر ما تقدم من مباني العرب، فإذا أضفنا إليه قصر شقوبية وبعض الأبنية التي نتكلم عنها في الفصل الذي خصصناه للبحث في تأثير العرب في أوربة كانت لدينا صورة كافية للآثار العربية الماثلة الآن في إسبانية والتي هي بقايا عصر زاهر، والتي تكفي وحدها للدلالة على عظمة العرب ولو لم ينته إلينا شيء من علومهم وآدابهم.