الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
العرب في بغداد
(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد
دور الخلافة في بغداد بآسية ودورها في قرطبة بإسبانية أنضر أدوار الحكم العربي، ولا استقلت تانك الدولتان بسرعة، وفضلت بينهما مساوف عظيمة، كان لهما أصل واحد ودين واحد ولغة واحدة، تقدمتا تقدماً متوازياً عدة قرون، وكانت المدينتان الكبيرتان، بغداد وقرطبة، وهما القاعدتان اللتان كان السلطان فيهما للإسلام من مراكز الحضارة التي أضاءت العالم بنورها الوهاج أيام كانت أوربة غارقة في دياجير الهمجية.
ولم يلبث دور ازدهار حضارة العرب أن بدأ بعد أن فرغوا من فتوحهم، وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية في البداءة وجهوا مثله إلى الآداب والعلوم والصناعة، فتقدموا في الفنون السلمية مثل تقدمهم في الفنون الحربية.
ورأينا أن دمشق أصبحت عاصمة دولة الأمويين العربية بعد المدينة، فلما قبض العباسيون على زمام الخلافة في سنة (132 هـ/740 م) عزموا على تبديل العاصمة، فأقاموا بالقرب من بابل وعلى شاطئ دجلة، مدينة بغداد التي لم تلبث أن صارت أشهر مدن الشرق.
ولم يبق من المباني التي شادها الخلفاء في بغداد مثل ما بقي في سورية، ولكن ما انتهى إلينا من آثار العرب في العلم والأدب في ذلك الدور وما ورد في كتب مؤرخيهم يكفي لتمثل حضارتهم في القرن التاسع من الميلاد، وما نذكره الآن، وما ندرسه في الفصول الآتية من تاريخ العلوم والفنون، يلقي نوراً على ناحية مهمة من نواحي الحضارة العربية لم نوضحه في الفصل السابق.
بلغت بغداد ذروة الرخاء في عصر بطل رواية ألف ليلة وليلة هارون الرشيد الشهير (786 م-809 م) وابنه المأمون (813 م-833 م) وصارت أهم مدن الشرق، وذاع صيت
الرشيد، وطبق الآفاق، فأرسلت بلاد التتر والهند والصين رسلاً إلى بلاطه، وأرسل عاهل الغرب الحقيقي وصاحب الحول والشوكة، الإمبراطور شارلمان، الذي كان يملك ما بين المحيط الأطلنطي ونهر الإلب، وهو الذي لم يملك غير أناس من الهمج - وفداً ليبلغ الرشيد أطيب تحياته، ويلتمس منه الحماية لحجيج القدس، فأجابه الرشيد إلى سؤاله، ورد إليه وفده مع هدايا عظيمة، ومن بينها فيل مجهز بأفخر جهاز، والفيل كانت تجهله أوربة تماماً، ولآلئ وجواهر وحلي وعاج وعطور ونسائج حريرية وساعة دقاقة تدل على الوقت، وقد قضى إمبراطور الغرب شارلمان العجب من هذه الساعة هو وحاشيته المتبربرون اللذين لم يكن بينهم من قدر على إدراك كنهها، والذين حاول شارلمان عبثاً أن يحملهم على إحياء حضارة الرومان.
وجلس الرشيد على عرش الخلافة في الثالثة والعشرين من سنيه، وكان تنظيم شؤون دولته الواسعة أول ما فكر فيه، فوصلت ولايات الدولة بوسائل نقل منظمة، وأنشئت مرابط؛ لتتمكن الرد بها من قطع المساوف الكبيرة على عجل، وغني بحمام الزاجل لربط ما بين المدن بالرسائل كما هو واقع بين بعض المدن في الوقت الحاضر، وكانت إدارة البريد ببغداد من أهم وظائف الدولة كما في أوربة الحديثة.
وكان الولاة على رأس الولايات، وكانوا يمتثلون أوامر الخليفة، وكان يقوم مقام الخليفة في الولايات النائية، كشمال إفريقية، أمراء وراثيون استقلوا مع الزمن استقلالاً تاماً.
وكانت مالية الدولة دقيقة الضبط، وكان دخل الدولة قائماً على الجزية والخراج والمكوس وإحياء الموات واستخراج المعادن، وروى مؤرخو العرب أن دخل الخلافة السنوي بلغ مئتي مليون فرنك، أي مبلغاً عظيماً في ذلك الزمن.
وكان يقوم بأعمال الجباية لجنة تدعى الديوان، قال ابن خلدون:«إن ديوان الأعمال والجبايات من الوظائف الضرورية للملك، وهي: القيام على أعمال الجبايات، وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدولة، وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرج مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال، ويسمى ذلك الكتاب بالديوان، وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها.»
وكانت إدارة الدولة موزعة بين أربعة دواوين مماثلة لدواوين الزمن الحاضر: وهو ديوان الغنائم ونفقات الجند، وديوان الضرائب، وديوان الجباية، وديوان رقابة الدخل والخرج.
وكانت جميع أوامر الخلفاء تكتب في سجل مصون؛ ليرجع إليها فيه من يأتون بعدهم.
وكان الوزير مرجع شؤون الدولة الأعلى، وكان أكثر الخلفاء يتركون له مقاليد الحكم تماماً، ويشابه منصبه في عصر الخلفاء منصب رئيس الوزراء في أيامنا.
ولم تكن الشرطة في عهد الخلفاء أقل انتظاماً من البريد والمالية، وكانت للتجار نقابة مسئولة لرقابة أمور البيع والشراء ومنع الغش والتدليس.
وكانت انتظام مالية الخلفاء سبباً في القيام بأعمال عظيمة تعود على الناس بالخير، كتعبيد الطرق وإنشاء الفنادق والمساجد والمشافي والمدارس في جميع نواحي الدولة، ولا سيما بغداد والبصرة والموصل
…
إلخ.
واتسع نطاق الزراعة والصناعة، واشتهر نبيذ شيراز وأصبهان، وصار يصدر إلى البلاد البعيدة، وأنشئت مصانع للنسائج الحريرية في الموصل وحلب ودمشق، وصار العرب يستغلون الممالح ومناجم الكبريت والرخام والحديد والرصاص
…
إلخ، بطرق فنية.
ووسعت دائرة التعليم العام، واستدعي الأساتذة من مختلف أقطار العالم، وبلغ علم الفلك درجة رفيعة من التقدم، وانتهى إلى نتائج لم ينته إليها الأوربيون إلا في العصر الحاضر، كقياس دائرة نصف النهار، ونقلت إلى اللغة العربية كتب علماء اليونان واللاتين، ولا سيما كتب الفلسفة والرياضيات، وصارت تدرس في جميع المدارس، وبحث العرب في آثار القدماء، فسبقوا الأوربيين إلى ذلك ببضعة قرون.
وأقدم العرب على تلك المباحث، التي لم يكن لهم عهد بها، بشوق ونشاط، وأكثروا من إنشاء المكتبات العامة والمدارس والمختبرات في كل مكان، وكانت لهم اكتشافات مهمة في أكثر العلوم كما سترى ذلك في الفصول التي ندرس فيها تفاصيل حضارتهم.
وترى من الخلاصة السابقة أن العرب بلغوا درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، ولكن الإدارة الرشيدة والفنون المعقدة كالتعدين وطراز العمارة، والعلوم كعلم الفلك؛ إذ كانت مما لا يأتي عفواً لم يفعل العرب غير مواصلة الحضارات التي ظهرت قبلهم، كالحضارة اليونانية اللاتينية، فكانت لهم مبتكرات فيما ورثوه من
علومها وفنونها وطرق حكمها، وكانوا بذلك على نقيض الروم الذين سلموا إلى العرب تراث تلك الحضارات من غير أن ينتفعوا به، والذين سقطوا في أسفل دركات الانحطاط.
شكل 2 - 1: مسجد أورفة (العراق، من تصوير فلاندان).
وكان حب العرب للعلم عظيماً، ولم يترك الخلفاء في بغداد طريقاً لاجتذاب أشهر العلماء ورجال الفن في العالم إلا سلكوها، ومن ذلك أن شهر أحد أولئك الخلفاء الحرب على قيصر الروم؛ ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد.
وكان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل، من يونان وفرس وأقباط وكلدان، يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا، وقال أبو الفرج عن المأمون إنه «كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده
…
فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم.»
وكان أولئك يحيطون بخلفاء بغداد، وكان يمكن هؤلاء الخلفاء أن يعدوا قصرهم أول قصور العالم وأنضرها، وتتجلى لنا أبهة بغداد الشرقية بالقول الآتي الذي وصف به المؤرخ العربي، أبو الفداء، استقبال أحد الخلفاء العباسيين لسفير قيصر الروم في سنة 305 هـ.
قال أبو الفداء:
قدم رسل ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئت لهم العساكر وصفت الدار بالأسلحة وأنواع الزينة، وكان العساكر المصفوفون حينئذ مائة ألف وستين ألفاً ما بين راكب وواقف، ووقف الغلمان ذوو الزينة الحجرية والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك، وكانوا سبعة آلاف، أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف خادم أسود، ووقف الحجاب كذلك، وهم حينئذ سبعمائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألفاً وخمسمائة ستر من الديباج المذهب، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفاً، وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشر غصناً، وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضة، والأغصان تمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وشاهد الرسل من العظمة ما يطول شرحه، وأحضروا بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامهم إلى الخليفة، ويرد الجواب عن الخليفة.
شكل 2 - 2: عبور الفرات عند بيره جك (من تصوير فلاندان).
وكانت قوة الخلفاء الحربية في بغداد تناسب أهمية دولتهم، ويمكننا اجتلاء ما كانت عليه من الهيبة في الخارج بما أكره عليه قيصر بيزنطة الوارث لعظمة اليونان والرومان من دفع الجزية حين تمتنع عن إعطائها عبثاً، فلما رفض خليفة الإمبراطورة إيرين، القيصر نيقفور، إعطاء الجزية في كتاب أرسله إلى الخليفة هارون الرشيد أجابه هارون الرشيد بالكتاب الموجز العنيف الدال على درجة الاحتقار الذي أضحى عرضة له أبناء اليونان والرومان الضعفاء، وإليكه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نيقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه.
رأى «كلب الروم» الجواب، فقد خرب هارون الرشيد بلاده تماماً، وأرغم قيصر القسطنطينية النصراني على دفع الجزية إلى أمير المؤمنين.
ومن الإنصاف أن عد سلطان العرب السياسي في عصر الرشيد وابنه المأمون أقصى ما انتهى إليه سلطان العرب في الشرق، فقد كانت بلاد الصين حداً لدولة العرب في آسية، ودحر العرب قبائل إفريقية المتوحشة إلى حدود بلاد الحبشة، ودحروا الروم إلى البسفور، ولم يقفوا في الغرب إلا عند المحيط الأطلنطي، والحق أن هؤلاء القوم الشجعان الذين لبوا دعوة محمد، وغدوا أمة واحدة، أقاموا دولة بلغت ما بلغته دولة الرمان من الاتساع في أقل من قرنين، وأن هذه الدولة بدت أكثر دول الأرض هيبة وتمدناً.
بيد أن مصير الدول الحربية العظمى المطلقة تابع لاقتدار ولاة أمورها، فإذا كان هؤلاء الولاة من العباقرة، كهارون الرشيد وابنه المأمون، أينعت تلك الدول وتقدمت، وإذا لم يكونوا أبناء بجدتها هبطت بسرعة أعظم من التي قامت بها.
ولم يكن كثيراً على أعاظم الرجال أن يحفظوا للخلافة هيبتها تجاه ما كان يبدو من تفرق كلمة العرب في أنحاء الدولة، وتجاه الأمم التي دحروها حيناً من الزمن من غير أن يقوضوا أركانها، وقد استقل البربر بعيد استقلال الأندلس، وقد أخذ الترك يقبضون بدسائسهم على السلطة التي سينالونها كاملة بسلاحهم ذات يوم.
ولم تخب شعلة الخلفاء العباسيين إلا في القرن العاشر من الميلاد، ولكن الخلافة العباسية كانت قد خسرت سلطانها منذ زمن طويل حينما غابت عن التاريخ.
لم يكن الترك الذين جيء بهم إلى بغداد من غير الأسري أو الموالي الذين أعجبت الخلفاء قدودهم ففوض الخلفاء إليهم أمر حراستهم، ولم يلبث هؤلاء الموالي أن صنعوا
كما صنع المماليك بمصر، فانفردوا بالأمر غير تاركين لسادتهم الخلفاء سوى سلطة اسمية.
ولم يقدر الخلفاء على مقاومة جميع المطامع التي كانت تحيق بهم، فانقسمت دولتهم إلى إمارات مستقلة، فلما توارى آخر العباسيين عادت بغداد لا تستطيع الادعاء بلقب آخر غير كونها الملجأ الأول لعلوم الشرق وآدابه.
شكل 2 - 3: منظر في بغداد بالقرب من مسجد أحمد كهيا (من تصوير فلاندان).
والمغول هم الذين قضوا على الخلافة العباسية، والمغول جيل من الآدميين البدويين يؤلف مع الترك عروقاً مختلفة تعد منها أجلاف هضبة آسية الوسطى الواسعة التي تحدها الجبال الفاصلة لها عن سيبرية من الشمال، والتي تحدها الصين والتبت وبحر قزوين من الجنوب، ويرى علماء وصف الإنسان ولا سيما صديقي العالم الأستاذ دالي، أن الترك والمغول والمماليك، وأهل التبت على ما يحتمل، من أصل واحد يدعي الأرومة المغولية، وظاهرة هذه الأرومة هي هيئة وجوهها الخاصة وجلودها المصفرة الكامدة وشعورها المسندرة
…
إلخ، ولا نزال نجد شبها بين التركمان والمغول، ومثل هذا الشبه كان موجوداً في غابر القرون بين الترك الخلص والمغول لا ريب، فقد ذكر رشيد الدين في تاريخه عن المغول، الذي ألفه في القرن الثالث عشر، أن المغول والترك متشابهون تشابهاً يستوقف النظر، وأن اسم هذين الجيلين كان واحداً في غابر الأزمان.
ومن المستحيل أن ترى اليوم قرابة بين المغول وترك أوربة، ويرجع ذلك، لا ريب، إلى تزوجهما في قرون كثيرة بنساء من العرق القفقاسي كالكرجيات والشركسيات، والفارسيات على الخصوص.
واستولى المغول على بغداد سنة (656 هـ/1258 م) وخربوها تماماً، وخنقوا آخر العباسيين، المستعصم بالله، بأمر رئيس الغالبين «هولاكو» ونهبوا ما في بغداد من الأموال، وحرقوا كتبها التي جمعها قبل هذه الكارثة الهائلة محبو العلم وألقوها إلى نهر دجلة، فتألف منها جسر كان يمكن الناس أن يمروا عليه رجالاً وركباناً، وأصبح ماء دجلة أسود من مدادها، كما روى قطب الدين الحنفي.
شكل 2 - 4: منظر في بغداد (من تصوير فلاندان).
ولكن أولئك الوحوش الضارية الذين أضرموا النار في المباني، وأحروقوا الكتب، وخربوا كل شيء نالته أيديهم خضعوا لسلطان حصارة المغلوبين بدورهم، حتى إن «هولاكو» الذي خرب بغداد وأمر بجر جثة آخر العباسيين تحت أسوارها بهرته عجائب حضارة العرب الجديدة في نظره، فلم يلبث أن صار من حماتها، وفي المدرسة العربية تمدن المغول، واعتنقوا دين العرب وحضارتهم، وشملوا متفنني العرب وعلماءهم برعايتهم، وأقاموا في بلاد الهند دولة قوية عربية من فورهم كما يمكن أن يقال، وذلك
لأنهم أحلوا حضارة العرب محل الحضارة القديمة، ولأن سلطان حضارة العرب لا يزال مسيطراً هناك حتى اليوم.
شكل 2 - 5: منظر في بغداد (من تصوير فلاندان).
أجل، قامت بغداد من تحت الأنقاض، ولكن الترك استولوا عليها بعد ثلاثة قرون فأصيبت بانحطاط تام، فغابت عنها المكتبات ورجال الفن والعلماء إلى الأبد.
واليوم لا تزال بغداد مركزاً مهماً بفضل موقعها التجاري، ولكنها مدينة عصرية لا تجد فيها غير الأنقاض من مباني الخلفاء، وما يصادف فيها اليوم من الأبنية، المتداعية على العموم، حديث نسبياً، وهو فارسي أكثر منه عربياً، قال مسيو فلاندان: «تتوارى تحت طبقة كثيفة من الغبار أسس المباني، ولا تكاد تجد فيها أثر هارون الرشيد وزبيدة، وهنا وهناك يكتشف في بعض زوايا الأسواق وعلى الشاطئ وبين أنقاض أضاعت اسمها وحوه جدران يقرأ عليها بصعوبة قطع من خطوط كوفية، ومئذنة يشهد خرابها على قدمها، وبقايا رتاج ذي ميناء وذي فسيفساء لامعة تنفصل على أساس البناء المحطم.
هذه هي حال بغداد اليوم، وقد لحقت بغداد الخلفاء، في أعفار الماضي، بطيبة وبابل ومنفيس وكل عاصمة كبيرة كانت سيدة الدنيا، ولكن هذه المدن لم تسيطر على العالم بغير السلاح، وخلفاء بغداد ملكوا العالم بحضارتهم على الخصوص.
ويجب، لنحسن تقدير تلك الحضارة، أن نخرج من دائرة الإجمال، التي التزمناها في هذا الجزء من كتابنا، وأن ندخل دائرة التفصيل، فندرس ما أسفرت عنه من العلوم والآداب والفنون والصناعة، وهذا ما نفعله في فصول أخرى بعد أن تم دراستنا المختصرة التاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها.
وكلما تقدمنا في الكتاب بدا لنا، بوضوح، أمران جوهريان لم نفعل غير الإشارة إليهما حتى الآن، وهما: أن العرب استطاعوا أن يبدعوا حضارة جديدة مستعينين بما استعاروا من الفرس واليونان والرومان، وأن حضارة العرب كان لها من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على البرابرة الذين حاولوا هدمها، وقد ظهر لنا أن جميع أمم الشرق الكثيرة التي ساعدت على قهر العرب، ومنها الترك، أعانت بلا استثناء على نشر نفوذ العرب، وأن أمماً قديمة قدم العالم، كالمصريين والهنود، اعتنقت ما جاءها به العرب أو ورثتهم من الحضارة والدين واللغة.