الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
العرب في صقلية وإيطالية وفرنسة
(1) العرب في صقلية وإيطالية
يدلنا درس تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دخلوها على أن لغزواتهم مناحي مختلفة، أي يدلنا على أنهم إما أن يكونوا قد أغاروا عليها؛ ليستقروا بها نهائياً، وإما أن يكونوا قد اكتفوا بغزوهم الخاطف لها، فأما في الحالة الأولى فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم كما صنعوا في سورية ومصر وإسبانية، وذلك خلافاً لعادة جميع الفاتحين في زمانهم، وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كل فاتح، فعدوا البلاد التي أغاروا عليها كإيطالية، وفرنسة على الخصوص، من الفرائس وانتهبوا بسرعة ما وصلت إليه أيديهم منها، وخربوا فيها ما لم يقدروا على حملة غير مبالين بسكانها.
وسار العرب على ذينك النجدين في صقلية، فبما أن عدد من أغار منهم على صقلية وعلى قطعة من إيطالية كان قليلاً وقفوا عند حد الغزو المؤقت وما ينشأ عنه عادة من التخريب والنهب وقتل من يقاوم من الأهلين ثم العودة السريعة، ولما تكررت غزواتهم لتلك البلاد وأصابهم فيها من النجاح والتوفيق ما أصابهم رأوا أن يستقروا بها، وأن يحسنوا سياسة أهلها، ولما رسخت أقدامهم فيها كفوا عن عادة نهبها، وأنعموا عليها بنعم الحضارة، وكان لهم فيها مثل ما كان لهم في إسبانية من الأثر النافع البالغ.
ويمكننا، ببيان هذه الفروق الأساسية في سياسة العرب، إدراك تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها، وإيضاح علة اختلاف سياسة العرب أنفسهم في البلدان المتجاورة.
ومسلمو إفريقية هم الذين غزوا صقلية وإيطالية، وأكثر هؤلاء المسلمين من البربر؛ لما كان من قلة عدد العرب في ذلك الدور، وهؤلاء البربر من أشد الشعوب التي دانت لشريعة الرسول بأساً، وأضعفهم تمدناً كما ذكرنا.
وأغار العرب على صقلية وجزر البحر المتوسط بضع مرات منذ القرن الأول من الهجرة، ولم يحاول العرب الاستيلاء على صقلية جدياً إلا في أوائل القرن الثالث من الهجرة حين استقل شمال إفريقية عن خلافة المشرق، وحين حدث ما شجعهم على ذلك.
وكانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بيزنطة، وكانت حكومة بيزنطة ترسل إليها حكاماً ليمارسوا السلطة فيها، ومما حدث أن عهد إلى أمير البحر أوفيميوس (فيمي) في الدفاع عنها، وأن علم أوفيميوس أن قيصر بيزنطة أمر بقتله، وأن قتل أوفيميوس حاكم صقلية ونصب نفسه أميراً عليها، وأن ثار أهلها عليه ففر إلى إفريقية طالباً حماية المسلمين، وأن عاد إلى صقلية مع جيش من المسلمين لم يلبث أن سار على حساب نفسه، فأتم فتح صقلية بدخوله بلرم بعد وقائع دامت بضع سنين (212 هـ/ 217 هـ).
ولم يقتصر العرب، بمقاتلتهم الروم، على غزو صقلية، فقد استولوا على جنوب إيطالية أيضاً، وبلغوا في تقدمهم ضواحي رومة، وأحرقوا كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس اللتين كانتا قائمتين خارج أسوار رومة، ولم يرجعوا عنها إلا بعد أن وعدهم البابا يوحنا الثامن بدفع جزية إليهم، واستولى العرب على مدينة برنديزي الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتي ومدينة تارانت، وأغاروا على دوكية بنيفنت، وصاروا سادة البحر المطلقين بفتحهم صقلية وأهم جزر إيطالية وقورسقة وقندية (الخندق) ومالطة وجميع جزر البحر المتوسط، ولم يسع البندقية إزاء ذلك إلا أن تعدل عن محاربتهم لطويل زمن.
والنورمان هم الذين قضوا على سلطان العرب السياسي في صقلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، وداوم العرب، بعد زوال سيادتهم، على القيام برسالتهم الثقافية فيها كبير وقت، وذلك أن ملوك النورمان، إذ كانوا من الذكاء ما يستطيعون أن يدركوا به تفوق العرب العظيم استندوا إلى العرب؛ فظل نفوذ أتباع الرسول في أيامهم بالغاً.
وإذ كان التاريخ النورمان صلة وثيقة بتاريخ العرب في صقلية رأيت أن أحدث عن وقائعهم بإيجاز لفهم تاريخ حضارة العرب فيها، ومن المفيد أيضاً أن أذكر أسلوب الحرب في ذلك الزمن، وأن أبين أعمال التخريب، التي لام مؤرخو اللاتين العرب عليها، هي مما كان يستبيحه مقاتلو جميع الأمم.
شكل 7 - 1: مقدم قصر العزيزة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).
نعد الأحوال التي ساقت النورمان من أمكنة بعيدة إلى فتح صقلية من غريب الحوادث، وذلك أن كوكبة من فرسان الفرنج والنورمان كانت قادمة، حوالي سنة 1015 م، من بيت المقدس إلى جنوب إيطالية لتزور، وفق العادة، غار جبل غورغانو الذي اشتهر بظهور الملك ميكائيل فيه، وأن كونت أفيلينو، روفريد، لما علم ذلك استنجد بهم للدفاع عن ساليرم التي كان العرب يحاصرونها، وأنهم استطاعوا أن يدخلوها، وأن يشدوا عزائم أهلها الذين لم يلبثوا أن فكوا الحصار وهزموا العرب، وأن أهل ساليرم وأميرهم فرحوا بذلك، ودارت الحمية في رؤوسهم، فأجزلوا عطاء أولئك الغرباء، ودعوهم إلى الإقامة بين ظهرانيهم.
ومع أن أولئك الحجاج لم يرضوا بذلك لرغبتهم في رؤية وطنهم مرة ثانية وعدوا بأن يبعثوا إليهم فتياناً منهم للدفاع عن النصرانية ببسالة، ثم توجهوا إلى وطنهم الذي
كانوا في أشد الشوق إليه، وأخذوا معهم من الهدايا نسائج ثمينة وحللاً فاخرة وسروجاً ذهبية وفضية زاهية، وما لم تعرفه فرنسة قبل ذلك الزمن من البرتقال الناضج، قاصدين بذلك أن يرى بنو قومهم تلك المنتجات، وأن يتشوقوا إلى زيارة ذلك القطر الذي ينتج مثلها.
ولم يكد أولئك الفرسان النورمان يصلون إلى وطنهم حتى أخذوا يقضون على أهله من الأنباء ما ألهبوا به حميتهم، وما دفعوا به عدداً كبيراً منهم إلى غزو صقلية.
ذلك هو سبب غارة النورمان الذين كان همهم مصروفاً إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثر مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوي الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يسلبون هؤلاء جميعاً بنشاط، والذين عدوا في خمسين سنة، أي حتى تم لهم الفتح، جزيرة صقلية وما جاورها من إيطالية بلاداً مباركة يمكن الاغتناء فيها بسهولة.
ولم ينشأ عن أعمال حماة الدين من النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشد وقراً من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم من النورمان، ولم يجد إنذار البابا للنورمان نفعاً، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتاباً يدلنا على سوء معاملة جيش نصراني في ذلك الزمن لبلاد صديقة استولى عليها.
وإليك كتاب البابا ليون التاسع الذي بعث به إلى قيصر القسطنطينية:
يكاد قلبي يتفطر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رسل ابني أرجيروس، فعزمت على تطهير إيطالية من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المردة الأشرار الزنادقة الذين لا يحترمون شيئاً عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى، ويسومونهم أشد العذاب غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويحرقونها ويهدمونها، والذين يعدون كل شيء فريسة يباح سلبها، والذين أكثرت من لومهم على فسادهم، ومن إنذارهم بسوء أحكامي، وخوفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتواً، فكان أمرهم كقول الحكيم: إن من يتركه الرب يظل خبيثاً على الدوام، وإن من يكون مجنوناً لا يصلحه الكلام، ولهذا فقد عزمت على شهر الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم وصار أمرهم لا يطاق، وهذا دفاعاً عن الشعوب والكنائس.
وإذ لم ينل البابا ليون التاسع أية مساعدة من قيصر الروم سعى إلى عقد حلف ضد النورمان، وخاطب الألمان في ذلك، ورأى الأسقف أيشتات عاراً في قيادة البابا لجيش يحارب به النصارى، ومنع ملك جرمانية، هنري الثالث، من الانضمام إليه، هنالك جمع البابا جيشاً أكثر عدداً من الجيش النورماني، وهجم على النورمان بصولة متوكلاً على الرب فكسر وأسر، وهنالك حاول البابا أن يستعطف قاهريه فاسترد حرمانه إياهم ومنحهم البركة، ولم يؤثر هذا في مشاعر النورمان، ولم يسرحوه إلا بعد سنة، وبعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق الغليظة.
وداوم النورمان، الذين خلا لهم الجو بذلك على اقتراف جرائم النهب عمداً في صقلية وإيطالية، ودام النزاع بين الحاكمين والمحكومين زمناً طويلاً، وتعوده الأهلون، وصاروا يألفون ما يقع كل يوم من حوادث السلب والقتل التي قص المؤرخون خبر كثير منها كما لو كان ذلك من الوقائع اليومية التي لا أهمية لها، ومن ذلك أن فرسان النورمان كانوا يفاجئون الأديار السيئة التحصين، ويسلبون كل ما فيها، ويبقرون بطون رهبانها على بكرة أبيهم خشية الفضيحة، وأن الرهبان من ناحيتهم كانوا يتغفلون بعض أولئك الفرسان بين حين وآخر فينتقمون منهم أشد الانتقام.
وتاريخ اللاتين حافل بوصف أنباء تلك المجاملات المتقابلة، ومن بين ألف حادثة منها أختار الخبر الآتي الذي اطلع عليه مسيو دولابريمويري في وثائق رهبان جبل كاسينو للدلالة على طبائع أهل ذلك الزمن:
صعد الكونت رالف في جبل كاسينو ذات يوم، وكان معه خمسة عشر نورمانياً، فترك هؤلاء النورمان، على حسب العادة، أسلحتهم وخيولهم عند باب الدير الذي دخلوه للصلاة، وبينما كان هؤلاء النورمان جثياً أمام هيكل القديس «بنوا» أغلق الرهبان أبواب الدير من فورهم، وقبضوا على تلك الأسلحة والخيول، ودقوا النواقيس إيذاناً بالخطر، فتدفق أنصار الدير كالسيل، وهجموا على هؤلاء النورمان الذين لم يبق لهم ما يدفعون به عن أنفسهم سوى السبحات التي كانت بأيديهم.
وذهب عبثاً ما تضرعوا به لاحترام ذلك المكان المقدس الذي لم يحدث أن احترموا أمثاله، وذهب عبثاً قسمهم إنهم لم يدخلوا الدير إلا للعبادة وللاتفاق مع رئيسه، فقد جعل الرهبان أصابعهم في آذانهم، ولم يرضوا أن ضيعوا ما سنح لهم من فرصة الانتقام، وقد قتل أصحاب الكونت الخمسة عشر، ولم
ينج الكونت نفسه من القتل إلا بفضل شفاعة رئيس الدير الذي اهتبل هذه الفرصة فأعاد إلى الدير ما كان هذا الكونت قد اغتصبه من الأملاك والأموال، وقصر القديس أندره وحده هو الذي حاول المقاومة.
شكل 7 - 2: داخل قصر العزيزة في صقلية (من تصوير جيرول دوبرانجة).
واستمر النورمان على نهب صقلية إلى أن فكر رئيس ماهر من رؤسائهم، اسمه روجر، في فتحها بحزم، والفرصة كانت سانحة لتحقيق ذلك.
وكان الانقسام يأكل المسلمين، وكان ما بين العرب والبربر من المنافسة يقودهما إلى الهلاك في صقلية كما كان يقودهما إليه في إسبانية، وكانت صقلية في ذلك الزمن، أي في سنة 1061 م، مجزأة إلى الإمارات الخمس: بلرم ومسينة وقطانية وأطرابنش
وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقب ملك على أمير بلرم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.
وجعل انقسام العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتم استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة 1072 م، فأفل نجم العرب السياسي عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرهم الثقافي بعدها زمناً طويلاً بفضل دراية روجر وخلفائه.
وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميراً على صقلية، منظماً قديراً كما بد مقاتلاً شجاعاً، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.
وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا تظمهم، وشملوهم برعايتهم، وتمتعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوك من السوآب على زمامها في سنة 1194 م فأجلوا العرب عنها.
وكان يسكن صقلية، حينما نظم روجر أمورها، خمسة شعوب ذات لغات وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبار واليهود والعرب، وكان لكل من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأفارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضاً، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعض منها يشتمل على رمز محمد، وبعض آخر يشتمل على كلا الرمزين.
وسار خلفاء روجر على شنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.
وروى مؤرخو العرب أن عدد العرب في صقلية أصبح كثيراً في سنة 1184 م، أي بعد قرن من ذلك الفتح، وأنه كان لهم في بلرم أحياء واسعة ومساجد كثيرة وأئمة وقاض للفصل في خصوماتهم، وأزهر بلاط ملوك النورمان في صقلية بفضل العرب، وبالغ أبو الفداء في تقديره؛ فشبهه ببلاط الخلفاء في بغداد، وببلاط الخلفاء في القاهرة.