الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
الفنون العربية
الرسم والحفر والفنون الصناعية
(1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار
لم تنل يد التحليل العلميِّ الدقيق التي قلبت رأينا في الكون رأساً على عقب عالَمَ الشعر والفن، ويظهر أن من طبيعة الشعر والفن أن يَبْقَيَا بعيديْن من مباحث العلماء، فالعلم قد يرى سُنَناً دقيقة لتطور الكواكب وتحول الموجودات وسقوط الأجسام، ولكن هل يسود نَظْم القصائد أو إقامة المباني أو صنعَ التماثيل غير الإلهام والهوى؟ حقاً إن أصحاب الفنِّ يتَفَلَّتُون حين يُحلِّقون في سماء الخواطر من قيود السنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة.
لم يحل سحر هذه العقيدة دون تلاشيها يوم بَسَط العلم يده عليها، فقد قرر العلم، من فوره، أن آثار الفن والآداب لم تكن غير مُعَبِّر صادق عن مشاعر أحد الأدوار ومعتقداته واحتياجاته، وأن من نتائج تعبيرها عنه أن كان أحسنُ صفات التاريخ هو ما تركه كلُّ جيل من الآثار، وأن أصحاب الفن والكتَّابَ لم يعملوا، بالحقيقة، غيرَ الإعراب، بشكل منظور، عن أذواق الجمهور المحيط بهم وطبائعه وعواطفه واحتياجاته، وأنهم، وإن كانوا أحراراً في الظاهر تقيدوا، بالحقيقة، بقيود كثيرة من المؤثرات والمعتقدات والخيالات والتقاليد التي يتألف من مجموعها ما نسميه روح العصر، فَرَزَحُوا تحت أثقال روح العصر عاجزين عن الخلاص منها على مدًى واسع.
والأثر الفني عنوانٌ ماديٌّ لخيال العصر الذي يوضع فيه، فالبَارْتِنُون عنوان خيال الأغارقة واحتياجاتهم أيام عظمتهم، والإسْكُورْيالُ عنوان مشاعر الإسبان في عصر فيليب الثاني، والبيت ذو الطبقات الست عنوان حياة البُرْجوازيِّ في الوقت الحاضر.
وتدل آثارُ الفن دلالةً صحيحة على أحوال الزمن الذي أبُدِعَت فيه إذا وُجد من يَعرف قراءتها، وإذا كان لكل جيل فنونه وآدابه فلأن لكل جيل احتياجاته الخاصة التي تقضيها الفنون والآداب، فالمسجد الذي هو معبد ومدرسة وفندق ومَشفى في آنٍ واحد أصدقُ دليل على تمازج الحياة المدنية والدينية عند أتباع النبي، والقصرُ العربي، كالحمراء مثلًا، العاطل خارجه من كل زينة، والمشتمل داخله السريع العطب على كل زخرف يحدِّثنا عن حياة أمة ظريفة بارعة سطحية محبة للحياة المنزلية غير مفكرة في سوى الساعة الحاضرة تاركةٍ أمر المستقبل لله، ولذلك أصاب من قال: أوضحُ الكتابات ما كُتب على الحجر.
ولكن الحجر وحدَه هو الذي ينْطَق في الآثار الفنية، وكلُّ أثرٍ ماثل يكلِّم من يحسن السماع، والمباني تنطوي على دلائل عامةٍ كما تنطوي عليها تقسيمات الكِتاب ومختصرات فصوله، وتَكْمُل بالآثار الفنية الفرعية التي يجب على الباحث ألا يحتقرها مهما صَغُر شأنها، ويجب عد آنية استنباط الماء والخنجر والأثاث وكل شيء يمتزج فيه الفن بالصناعة من أصدق الوثائق التي يمكن المؤرخين أن يعتمدوا عليها أيضًا، ومتى عرف المؤرخون أن يستخرجوا من هذا كله حوادث التاريخ أخُرِجَ التاريخ من دائرة سرد الوقائع وسلاسل الأنساب والدسائس السياسية الممزوجة بتقديراتٍ صبيانية لا تقف أمام سلطان النقد، والتي لا يُوصَل بتصفح أكداس الكتب الباحثة فيها إلى معرفة بصيص من حضارة الأزمنة التي تُحَدِّث عنها.
والآثار الفنية والأدبية الخليقة بالازدراء، لملاءمتها ما لدى العروق السائرة الانحطاط من الاحتياطات الوهمية، هي التي تنسخ بنذالةٍ عن آثار الماضي لاستخدامها في شؤون الزمن الحاضر، كأن تقدم محاطات الخطوط الحديدية أو المدارس الحديثة على الطراز القوطي مثلاً، وكذلك لا معنى للبرج بغير فارسٍ نبيل يحميه، فإضافة برج إلى البيت الريفي الحديث من قبيل المهازئ التي تحدث عندما يلبس برجوازي في الوقت الحاضر خوذةً ودرعاً كما كان يلبس شاركلن، فإذا كان صنعُ تمثال للقيصر شارلكن راكبًا فرسًا ولابسًا خُوذة ودرعًا مما يزيد في رَوعة هذا التمثال لدلالته على زمن المعارك والطعان، فإن صنع مثله لأحد رجال المال والاقتصاد أو لأحد رجال القانون مما يستلزم
شكل 7 - 1: جزئيات معمارية في باب بقصر الحمراء (من صورة فوتوغرافية)
قهقهة الناظرين لا محالة. والحق أن الأثر الفني إذا ما خرج عن زمانه وبيئته أضاع معناه، وأصبح المُتحف أليقَ مكان له.
وهنا أذكر أن البارتنون الذي أقيم تحت سماء اليونان الصافية على ذُروة الأكروبول المهيمنة على أثينا هو من أجمل ما يتصوره الإنسان من المعابد، فلما أقمنا على طرازه كنيسةً في ميدان المادلين بباريس كان هذا عملًا سَمِجًا باردًا، ولو لم يبالغ المهندس في تجسيم هذه الكنيسة؛ لكانت محلاً لسُخرية الناس عند قياسها بالأبنية العالية التي تحيط بها.
والفنون، إذن، وليدةُ مشاعر الأمم واحتياجاتها ومعتقداتها كالنظم، وإذا تحوَّلت هذه المشاعر والاحتياجات والمعتقدات وَجَبَ أن تتحول نُظُم تلك الأمم وفنونها أيضاً، ولو لم يكن لدينا من دور النهضة الأوربية سوى آثاره الفنية لكفى قياسها بآثار القرون الوسطى؛ لإدراك تطور العالم الأوربي تطوراً عميقًا.
شكل 7 - 2: فوهة بئر عربية بقرطبة (من صورة فوتوغرافية)
أجل، قد تَحْمِل أمةٌ أمةً أخرى على انتحال دينها ولغتها ونظمها وفنونها، ولكن إنعام النظر يدل على أن هذه العناصر الجديدة لا تَلْبَثُ أن تتحول تحولًا ملائمًا لاحتياجات تلك الأمة التي انتحلتها، وكما أن النظم المشتقة من القرآن في بلاد فارس غيرها في بلاد الهند ومصر وإفريقية نرى الفنون العربية في بلاد فارس غيرها في تلك البلاد الأخرى، ولسرعان ما تَطَور فن العمارة العربي الذي أدُخل مع القرآن إلى بلاد الهند؛ فاكتسب صفة الاستقرار والعظمة التي اتصفت بها مباني تلك البلاد العريقة في القدم.
وإذ كانت الفنون عنوان مشاعر الأمة وتصوراتها كانت العوامل القادرة على تحويلها كثيرة كثرةَ العوامل التي تؤثر في المجتمعات، ويُعد درس هذه العوامل وما لها من الأثر على جانب عظيم من الأهمية، وإن كنا لن نَصْنَعه هنا، والمعارف التي لدينا في ذلك عامة الآن، ولا تؤدِّي إلى ما نتمناه من الشروح الدقيقة، وإذا ما قُيِّض ذلك لأحد العلماء فأزال النقص تألفت لغة سهلة من قراءة آثار الفن.