الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) الجمال في فنون العرب:
ترانا سائرين بحكم الطبيعة إلى تقدير جمال الفنون العربية بعد أن بحثنا في مصادرها وما فيها من إبداع عظيم، ولكن فقدان المقاييس المضبوطة يجعل هذا التقدير أمرًا شخصياً ويقلل من شأنه، ولن يكون نفع الأثر الفني، أي مطابقته لغرضه، مقياساً صالحاً لتقدير قيمته، فمن الممكن أن تقام عدة بيوت أو عدة بنايات متساوية الفوائد مختلفة القيم الفنية.
ويجب علينا أن نُعرِّف الجمال والبشاعة قبل أن نُعيِّن بالضبط درجةَ الجمال أو البشاعة في الأثر الفني.
لقد دل البحث على أن قيمة الأمور التي هي من نوع الجمال والبشاعة تختلف باختلاف العروق والتربية والبيئة والزمن
…
وما إلى ذلك من العوامل، والتعريف الوحيد الممكن الذي يلائم جميع العروق في كل زمان هو أن الشيء الجميل هو ما نَسْتَلِذُّه.
وهذا التعريف ناقص جداً لا ريب، ولكن السعي في إكماله يؤدي إلى الاقتراب من دائرة سبب الأسباب المنيعة التي عجز العلم عن دخولها حتى الآن.
وإذا كنا نستلذ الشيء فلملاءمته أحوالَ أمزجتنا التي تختلف باختلاف الأشخاص والعروق، ولكن ما هذه الأحوال؟ ذلك ما لا نقدر على الإجابة عنه.
وليس في الطبيعة جمالٌ مطلق أو شناعة مطلقة، كما أنه ليس فيها صوت أو سكوت أو نور أو ظلام
…
أو غير ذلك من الأمور التي هي وليدة ذهننا، والتي أثبتت الفسيولوجية الحديثة أنها أوهام خالصة، ولم يظهر الجمال والبشاعة في العالم إلا يوم صار لبعض الأشياء والأشكال تأثير حسن أو سيئ في حواسنا، وهذه أوجه للذة والألم وفق آخر تحليل.
وإذا كانت عناصر الأثر الفني منسجمة كان هذا الأثر الفني ذا تأثير حسن في حواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر جميل، وإذا كانت تلك العناصر فاقدة الانسجام كانت مؤذيةً لحواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر بشع، وإنما الذي لا نقدر عليه هو بيان السبب في تلذذ العين أو الأذن ببعض التراكيب وتألمها من بعضها الآخر، ونرى اليوم البعيد الذي يكتشف العلم فيه سبب حب شخص لبعض الأطعمة وكُره شخص آخر لها هو اليوم الذي يكون العلم قد تقدم فيه كثيراً.
والوهم في تقدير قيمة الآثار الفنية نفسها يتطرق إلينا من إجماع فريق كبير من أبناء العرق الواحد على رأي واحد في بعض أوصاف الجمال، ومصدر هذا الإجماع هو
شكل 7 - 9: لوح باب خشبي قديم مرصع بالعاج في القاهرة (مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
في الحقيقة تماثل مزاج ذلك الفريق، فإذا ما نيط أمر الجمال أو البشاعة بمختلف العروق رأيت اختلافًا في التقدير من فَورِك؛ فالبيزنطي كان يفضل العذارى الضامرات الممطولات على إلاهات قدماء اليونان الضليعات، والبرابرة الميروفنجيون كانوا يرون صورهم الغليظة أجمل مما أنتجته الحضارة اليونانية اللاتينية، والهمجي من إفريقية الجنوبية يرى المرأة الهوتنتية، التي هي من أشنع نساء العالم في نظرنا، جميلة جمال فينوس دوميديسيس وأبولون دُو بلفدير عند الأوربي.
ويعود بنا الإيضاح السابق، كما ترى، إلى التعريف الذي بدأنا به، وهو «أن الشيء الجميل هو ما نستلذه» ، وإننا نتم هذا التعريف بقولنا: «إن الشيء الجميل هو ما
يستلذه أكثر أبناء العرق الواحد في زمن معين»، ولا نستطيع أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
ومهما تجد من نقص في تعريفنا للشيء الجميل تَرَهُ يدلنا، مع ذلك، إلى حقيقة الفن وإلى ما نطالب به رجل الفن، فإذا كان رجل الفن يبحث عن أمثلته في الطبيعة طالبناه بأن يقتبس منها ما نستلذه، وأن يبالغ في إظهار ذلك مبالغة تروقنا.
ولا نألم من رجل الفن لصنعه تمثال امرأة أجمل مما نراه عادة، ففي تجميل الطبيعة، لا في نقلها حرفيًا، يتجلى الفن، فانظر إلى تمثال فينوس دوميلو تراه آية في الجمال، وسبب الإعجاب به هو أن الطبيعة لم تمنَح شخصًا واحدًا ضروب الكمال التي تشاهدها مجتمعة فيه.
ثم إذا حدث أن بذل رجل الفن ما عنده من حِذْق في صنع تمثال لامرأة عجوز عارية متكرشة أمكننا الثناء عليه، مع ذلك، لدقته ولما اقتحمه من المصاعب، وإذا كان هذا التمثال محلًا للإعجاب فلِما اصطلح الناس عليه في زمن معين.
وقد يؤدي اصطلاح الناس في زمن معين، ولا سيما في دور الانحطاط، إلى تبدل في أذواقهم، ومن ذلك تمنِّي أنصار تصوير الطبيعة الحرفي أن تكون آثار الفن مطابقةً للحقائق بدلًا من أن تكون رائعةً مثاليةً، وقد جهل هؤلاء أن الطبيعة مملوءة بالحقائق، لا بما هو جميل، وأن الفن إذا قام، كما يَرَون، على تصوير الطبيعة تصويراً حرفياً فإنه يعود غيرَ موجود، وأن آلة التصوير التي تكفي لالتقاط قبيح الأشياء لا تَدَعُ في الناس احتياجاً إلى عبقرية رجال الفن المبدعة.
وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية؛ ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائمًا، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفَيض الزخارف والتَّفنن في أدق الجزئيات.
والأمة العربية قد رغبت، بعد أن اغتنت (والأمة العربية أمة شعراء، وأي شاعرٍ لا يكون متفنناً) في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي تخيل إلى الناظر أنها مؤلفةٌ من تخاريم رخاميةٍ مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة.
ولم يكن لأمة مثلُ تلك العجائب، ولكن، فهي وليدة جيل فتي مضى وخيال خصب ذَوَى، ولا يطمعن أحدٌ في قيام مثلها في الدور الحاضر الماديِّ الفاتر الذي دخل البشر فيه.