الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
(من سورة المؤمنون)
(من سورة سبأ)
(من سورة فاطر)
{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}
(من سورة نوح)
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}
(من سورة التغابن)
(من سورة النساء)
(2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم
إذا رجعنا القرآن إلى عقائده الرئيسية أمكننا عد الإسلام صورةً مبسطةً عن النصرانية، ومع ذلك فإن الإسلام يختلف عن النصرانية في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي، وذلك أن الإله الواحد، الذي دعا إليه الإسلام، مهيمن على كل شيء، ولا تحف به الملائكة والقديسون وغيرهم ممن يفرض تقديسهم، وللإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم.
وتشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام، والإسلام، وإدراكه سهل، خال مما نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذوق السليم، غالباً، من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحاً وأقل غموضاً من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها، ويدخل النار من يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك على عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثاً عن التثليث والاستحالة وما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.
وساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، ونفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام ديناً، سواء كانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.
ويجب على من يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني ألا ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم، بل إلى مدى تأثير عقائده، والإسلام إذا ما نظر إليه من هذه الناحية وجد من أشد الأديان تأثيراً في الناس، وهو، مع مماثلته لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاة
…
إلخ، يعلم هذه الأمور بسهولة يستمرئها الجميع، وهو يعرف، فضلاً عن ذلك، أن يصب في النفوس إيماناً ثابتاً لا تزعزعه الشبهات.
ولا ريب في أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيماً إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلفة من إمارات مستقلة وقبائل متقاتلة دائماً، فلما ظهر محمد ومضى على ظهوره قرن واحد كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى إسبانية، وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المدن التي خفقت راية النبي فوقها.
والإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيباً للنفوس وحملاً على العدل والإحسان والتسامح، والبدهية، وإن فاقت جميع الأديان السامية فلسفةً، تراها مضطرة أن تتحول تحولاً تاماً لتستمرئها الجموع، وهي لا شك، دون الإسلام في شكلها المعدل هذا.
وجرت حضارة العرب، التي أوجدها أتباع محمد، على سنة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا: نشوء فاعتلاء فهبوط فموت، ومع ما أصاب حضارة العرب من الدثور،
كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئاً من قوتها.
ويدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص، واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسية الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين، ثم جميع إفريقية إلى ما تحت خط الاستواء تقريباً.
وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستوراً لها وحدة اللغة والصلات التي يسفر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي.
وتجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي، لذلك، أكثر لغات العالم انتشاراً على ما يحتمل، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام.
وقضى أعداء الإسلام من المؤرخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة فعزوها إلى ما زعموه من تحلل محمد وبطشه، ويسهل علينا أن نثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول: إن من يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة، وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريباً على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور محمد، وإن هذه الشعوب لم تجد نفعاً جديداً في القرآن لهذا السبب.
وما قيل من دليل حول تحلل محمد نقضه العلامة الفيلسوف بيل منذ زمن طويل، وقال بيل، بعد أن أثبت أن ما أمر النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد مما أمر به النصارى:
إن من الضلال، إذن، أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دون هوتنجر قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى، مع القصد في مدح الإسلام، أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام.
شكل 2 - 3: صوان مصحف قديم في مكتبة الإسكوريال (المتحف الإسباني).
ومما نبه إليه العلامة بيل أن ملاذ الجنة التي وعد بها المسلمون لا تزيد على ما وعد به النصارى في الإنجيل، جاء في الإنجيل:«لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يحبونه» .
وسيرى القارئ، حين نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم، أن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العربي المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم؛ فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.
ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون
شكل 2 - 4: آخر صفحة من مصحف قديم في مكتبة الإسكوريال (المتحف الإسباني).
نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوماً فيوماً مع أن الإنكليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعاً إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
ولم يكن القرآن أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة الإسلامية فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليوناً في الوقت الحاضر.
وليس فيما يوصم به الإسلام من الجبرية ما يزيد خطراً على ما رددنا عليه، وليس في آي القرآن التي ذكرناها آنفاً من الجبرية ما ليس في كتب الأديان الأخرى كالتوراة مثلاً، وهنالك فلاسفة وعلماء لاهوت يعترفون بأن مجرى الحوادث تابع لسنة لا تتبدل، قال المصلح الديني القدير لوثر:«يحتج على اختيار الإنسان وإرادته بنصوص الكتاب المقدس التي لا تحصى، وإن شئت فقل بكل ما ورد في الكتاب المقدس» .
وكتب جميع الأمم الدينية مفعمة بالجبرية التي يسميها القدماء بالقدر، ووضع القدماء القدر، الذي لا راد لحكمه، على رأس كل أمر عادين إياه سلطةً مطلقةً لا مناص
للناس والآلهة من إطاعتها، وحاول إديب، غير جدوى، أن يضرع إلى هاتف الغيب الذي أخبره بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه فلم يستطع رداً لحكم القدر الجبار.
ولم يكن محمد، إذن جبرياً أكثر من مؤسسي الأديان الذين ظهروا قبله، ولم يسبق محمد في جبريته علماء الوقت الحاضر الذين أيدوا مع العلامة لابلاس رأي الفيلسوف ليبنتز في القول:«إنه إذا وجد ذكاء يعرف، لوقت، جميع قوى العالم ومواضع ما فيه من الموجودات، ويستطيع أن يحللها، ويحيط بمحركات أعظم أجرام العالم وأصغر ذراته، فإنه لا يبقى عنده شيء غير معين، ويصبح الماضي والمستقبل حالاً في نظره» .
والجبرية الشرقية التي قامت عليها فلسفة العرب، ويستند إليها كثير من مفكري العصر الحاضر هي نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة، وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر من أن يكون وليد عقيدة، وقد كان العرب جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم.