الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) حضارة العرب في صقلية
إن المصادر التي يُرجع إليها في تصوير حضارة العرب في صقلية قليلة، وليس لدينا منها غير ما هو مبعثر في كتب المؤرخين من الفقر، وقليل من المباني التي لم تنلها يد التخريب، وبعض النقود، وتكفي هذه المصادر، مع ذلك، لإثبات أن حضارة العرب كانت في صقلية على شيء من التقدم، وإن لم تكن مثل ما كانت عليه في مصر وإسبانية، وأن صقلية كانت حين جلاء العرب عنها أرقى ثقافة وصناعة واجتماعياً منها حين دخلوها، ونحن إذا علمنا أن قيمة تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى من ناحية الحضارة تقدر بمقدار نهوضها بها وإصلاحها لها رأينا أنه كان للعرب تأثير عظيم في صقلية.
وعقب دور تنظيم العرب لصقلية دور فتحهم لها، فقسم العرب صقلية إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت مقسومة، منذ زمن القرطاجيين إلى الولايتين: بلرم وسرقوسة، فكان تقسيم العرب لها إلى ثلاث ولايات أكثر ملاءمة لجغرافيتها، وكان على رأس كل واحدة من هذه الولايات الثلاث والٍ، وكانت كل ولاية مقسمة إلى عدة أعمال، وكان يقوم بشؤون كل واحد من هذه الأعمال قائد تابع للوالي، وكان يقيم ببلرم مفتٍ، وكان يقيم بكل ناحية قاض ومسجل، وكان في كل مدينة جابٍ، وكان يشرف على إدارة أمور المال والمحاسبة ديوان كبير.
وترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام، فكان للنصارى، كما في زمن الروم، قوانينهم المدنية والدينية وحكام منهم للفصل في خصوماتهم وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم، وهي 48 ديناراً عن كل غني، و 24 ديناراً عن كل موسر، و 12 ديناراً عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية، التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد.
وجعل العرب كل ما له علاقة بالحقوق المدنية، كالتملك والإرث وما إليهما، ملائماً لعادات صقلية، ولم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها.
وسمح العرب، في أيام سلطانهم، للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية، وقد روى الدومينيكي كواردين، وكان رئيساً لدير القديسة كاترين في بلرم، أن القساوسة كانوا أحراراً في الخروج لابسين حللهم الدينية ليناولوا المرضى القربان الأقدس، وقد روى الأب مور كولي أنه كان ينصب في الحفلات العامة بمسينة رايتان: إحداهما إسلامية وعليها صورة برج أسود في حقل أخضر، والأخرى نصرانية وعليها صورة صليب مذهب في حقل أحمر، ولم يمس العرب الكنائس القائمة في صقلية
شكل 7 - 3: جزئيات احدى وجهات قصر القبة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).
حين فتحهم لها، وإن لم يأذنوا لهم في بناء كنائس جديدة فيها كما كانوا يأذنون النصارى إسبانية.
ولم تكد أقدام العرب ترسخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة والصناعة، فانتشلوهما بسرعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، وأدخلوا إلى صقلية زراعة القطن وقصب السكر والدردار والزيتون، وحفروا فيها الترع والقنوات التي لا تزال باقية، وأنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم.
وتقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب، واستغل عرب صقلية ثروتها الطبيعية، واستخرجوا منها الفضة والحديد والنحاس والكبريت والرخام والغرانيت
…
إلخ، بأساليب فنية، وأدخلوا إليها صنع الحرير، ومما يرى في نور نبرغ رداء من الحرير كان
شكل 7 - 4: نقود نصرانية عربية لملوك النورمان في صقلية.
يلبسه ملوك صقلية مطارزاً بكتابات كوفية مع تاريخ سنة 520 هـ/ 1133 م، ويحمل كل شيء على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوربة من صقلية.
وانتعشت التجارة، واتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صفراً، تقريباً، قبلهم كما يدل على ذلك ما انتهى إلينا من جداول مكوسهم التي أدرجت فيما نظمه النورمان من القوائم في أوائل الفتح فتثبت درجة تحل تجارة صقلية حين هذا الفتح.
ولم يبق من المباني الإسلامية في صقلية سوى عدد قليل، وأشهر هذه المباني قصر العزيزة وقصر القبة القائمان بالقرب من بلرم، واللذان ثبت بهما أنه لم يكن من المبالغة ما رواه المؤرخون عن فخامة مباني العرب في صقلية، فعن هذه المباني المزينة بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة والمحاطة بأجمل الرياض تكلم الراهب ثيودوز والعالم الجغرافي الإدريسي مع الإعجاب، والراهب ثيودوز هذا أسر في أثناء حصار سرقوسة في سنة 878 م، ونقل إلى بلرم، وامتدح قصور هذه المدينة المهمة ومساجدها وضواحيها.
واسمع في وصف بلرم ما قاله العالم الجغرافي العربي الإدريسي الذي ألف كتاب رحلته الكبير في بلوم في عهد الملك روجر الثاني أي بعد الفتح النصراني بزمن قليل:
بلرم هي المدينة السنية العظمى، والمحلة البهية الكبرى، والمنبر الأعظم الأعلى، علم بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهاية القصوى، ذات المحاسن الشرائف، ودار الملك في الزمان المؤتنف والسالف، ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي عليه الآن من ذلك، وهي على ساحل البحر في الجانب الغربي والجبال الشواهق العظام محدقة بها، وساحلها بهج مشرق فرج، ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين: قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ السماط الأوسط يشتمل على قصور منيفة، ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار، والسماطان الباقيان فيهما أيضاً قصور سامية، ومبان فاخرة عالية، وبهما من الفنادق والحمامات كثير، وبهما الجامع الأعظم الذي كان بيعة في الزمن الأقدم، وأعيد في هذه المرة على حالته في سالف الزمان، وصفته الآن تعزب عن الأذهان، لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتخبة المخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزويق والكتابات، وأما الربض؛ فمدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهاتها، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي كان بها سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين، وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء، والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة، ومبانيها ومتنزهاتها حسنة، تعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين، والقصر المذكور من أكبر القصور منعةً وأعلاها رفعةً، لا ينال بقتال، ولا يطاق على حال، وبأعلاه حصن محدث للملك المعظم رجار مبني بالفصوص الجافية والحجارة المنحوتة الضخمة، وقد أحكم نسقه وأعليت رقعه، وأوثقت مناوره ومحارسه، وأتقنت قصوره ومجالسه وشيدت بنياناً ونمقت بأعجب المغتربات، وأودعت بدائع الصفات، فشهد لها بالفضل المسافرون، وغلا في وصفها المجولون، وقطعوا قطعاً أن لا مباني أعجب من مباني المدينة، ولا مكان أشرف من مغانيها، وأن قصورها مشارف