الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
أسباب عظمة العرب وانحطاطهم
حالُ الإسلام الحاضرة
(1) أسباب عظمة العرب
نختم تاريخ حضارة العرب بتلخيصنا أسبابَ عظمتهم وانحطاطهم في نظرة شاملة، فنقول: إن الزمن الذي ظهر فيه العرب من العوامل التمهيدية في قوتهم، وإن لعامل الزمن التمهيدي أهميةً كبيرة في حياة الأفراد والأمم، وإن هناك صفاتٍ لا تبرُز إلا في وقتٍ معين، فلو ظهر نابليون في زمن لويس الرابع عشر ما استطاع أن يصير سيد أوربة، ولو ظهر مُحَمَّد أيام سلطان الرومان ما قَدَرَ العرب على الخروج من جزيرتهم لا رَيب، ولظل التاريخ جاهلاً لهم.
ولد محمد في أحسن الأوقات، وقد رأينا أن العالم المسن كان متصدعاً فيه من كل جانب، ولم يتوجب على أتباع محمد إلا أن يهزوه ليتساقط.
بيد أن القضاء على دولةٍ لا يكفي لإقامة حضارة، ويدل عجز البرابرة الذين ورثوا حضارة الرومان في الغرب، كما ورثها العرب في الشرق، على ما في إقامة الحضارات من المصاعب، وإذا كان ذلك العامل التمهيدي مساعدًا على إنشاء دولة جديدة وحضارةٍ جديدة فلا بد من عواملَ أساسيةٍ أخرى لإقامتهما مما نُعَيِّنه الآن.
وتأثير العرق من أهم تلك العوامل التي نذكرها:
رأينا أن من أهم خصائص العرق أن يتَّصف أفراده - على الخصوص - بمشاعر وقابلياتٍ متماثلة، وأن يوجِّهوا جهودهم نحو غَرَض واحد، وهذه المشاعر المتماثلة التي
تكونت بتعاقب الوراثة، أي التي تتألف الأخلاق القومية من مجموعها، هي تُراث ماضٍ ساعد أجدادُنا على تكوينه، فنساعد على تكوينه أيضاً من أجل ذُرِّيَّاتنا، وهذه المشاعر، وإن كانت تختلف بين شعب وشعب لا تختلف إلا قليلًا في الشعب الواحد.
ولا ريب في وجود أثر لكل جيل فيما هو أساسي من الأخلاق القومية، ولكن هذا الأثر ضعيفٌ، ولا بد من مرور عدة قرون حتى يبدو الطورُ الناشئ عن الآثار الموروثة المتراكمة بالتدريج واضحًا، وعلى ما تؤدي إليه التربية والبيئة والأحوال من التطور السريع لا يكون هذا التطور إلا مؤقتاً.
والواقع أن صفاتِ العرق الخُلقية والعقلية ثابتةٌ ثباتَ صفات الأنواع الجسمانية، واليوم نعلم أن هذه الصفات تتحول مع الزمن أيضاً، وإن عدَّها علماءُ التاريخ الطبيعي سابقاً لا تتبدل مطلقاً.
شكل 2 - 1: بائع خبز جائل في القدس (من صور فوتوغرافية)
وقد حاولت أن أثبت في كتاب آخر أن الأخلاق التي تتألف من تجمُّع المشاعر اللاشعوري، لا الذكاء، هي التي تُسَيِّرنا، ولذا يجب على من يَرغَب في الوقوف على شأن الأفراد والأقوام في التاريخ أن يبدأ بالبحث في أخلاقهم، وقول يوليوس قيصر في أجدادنا:«إنهم محبون للثورات، موقدون للحروب بلا سبب، غير صبر على نوائب الدهر» مما يساعد على تفسير حوادث ماضينا.
ومن السهل أن نستعين بحوادث التاريخ فنُثبت أن نتائج الأخلاق تختلف باختلاف الأحوال، وأن المزايا والنقائص التي كانت سببًا في عظمة أمةٍ في زمن معين قد تكون سببَ انحطاطها في زمن آخر، كما هو أمر العرب، ويدلُّ إنعام النظر على صدور مختلف النتائج عن عللٍ واحدة، ومن ذلك أنه يظهر، أولَ وهلةٍ، وجودُ هوة اجتماعية بين الإغريقي في عصر بركليس وبينه في العصر البيزنطي مع أن الأحوال، لا الجوهر الخُلقي، هي التي تغيرت في هذين العصرين، أي أن رقة الإغريقي ودِقَّته الفلسفية وجمالَ لغته انقلبت إلى خداعٍ وبحثٍ كلامي وثرثرة بيزنطية بفعل البيئة وبتبدل الزمن، وقد يخيل إلى الناظر أن رجال محاكم التفتيش في القرون الوسطى يختلفون بإيمانهم المتقد ومحفظتهم الغريزية الشديدة عن اليعاقبة المعاصرين المتصفين بالزندقة المتطرفة والغرائز الثورية، مع أن قليلَ تأملٍ يدل على أن هذين الفريقين متشابهان، وأن أسماء المعتقدات وحدها هي التي تغيرت.
وينضم إلى عناصر الخلق القومي الأساسية الثابتة ثباتَ الفِقَر في ذوات الفِقرات عناصر ثانويةٌ تختلف كاختلاف الطول وشكل الجسم واللون في ذوات الفقرات أيضًا، وهذه العناصر الثانوية هي ما يَصحُّ أن يقال معها: إن الأذواق والأفكار تتغير بتغير الأزمان، ولكن تغيراتٍ كهذه لا تؤثر في عناصر الخلق الجوهرية، ويُمكن تشبيه هذه العناصر الجوهرية بالصخرة التي تلتطم عليها الأمواج من غير أن تزحزحها، ويُمكن تشبيه تلك التغيرات بما تَضَعُه الأمواج من الرمل والصَّدف والنبات على هذه الصخرة؛ لتعود فتأخذه منها بسرعة.
ومما تقدم يعلم القارئ أن البحث التاريخي يجب أن يستند على دراسة عناصر الخُلق القومي الأساسية ليُفرِّق بين الأمم، وقد وَصَفْنَا - بما فيه الكفاية - عناصر الخُلق العربي، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة أخرى، ونحن إذا تركنا جانبًا ما قلناه عن ذكاء العرب وحماستهم واستعدادهم الفني والأدبي
…
وما إلى ذلك من الصفات التي لولا وجودُها فيهم ما استطاعوا أن يصلوا إلى درجة الحضارة، فإننا نذكُر صفاتِهم
شكل 2 - 2: عرب من جوار أسوان: (مصر العليا، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
الحربيةَ المتأصلة التي يمكن اتخاذُها مثالاً بارزًا على قولنا: إنه ينشأ عن القابليات الواحدة نتائجُ تختلف باختلاف الأحوال.
ولم تكن جزيرة العرب، قبل ظهور محمد، سوى ميدانِ حرب دائم واسع؛ لما تأصَّل في العرب من الطبائع الحربية، ولمَّا جاء الإسلام وألَّف بين قلوب العرب وجَّهوا جميع قُوَّاتهم إلى البلاد الأجنبية، وكانت طبائعهم الحربية من أسباب انتصاراتهم، ولمَّا خلا الميدان من أعداء يحاربونهم صوَّبوا أسلحتهم نحو أنفسهم بفعل صفاتهم الحربية المتأصلة، وبدت هذه الصفات، التي كانت سر عظمتهم، سبب انحطاطهم.
ولكن قولنا: إنه ينشأ عن العنصر الخلقيِّ الواحد نتائجُ مختلفةٌ باختلاف الأحوال لا يكفي وحده لإيضاح تطور أمة؛ فهنالك أحوالٌ وعواملُ أخرى كثيرةٌ لها تأثير عظيم أيضًا.
ونذكر على رأس هذه العوامل التي ندرُسها ذلك العامل الذي توحَّدت بفضله جميع القبائل العربية المنقسمة، وهو الدين الذي أنشأه محمد، فقد منح هذا الدين ما كانت تحتاج إليه أممٌ من المثل الأعلى المشترك الذي اكتسبوا به من الحميَّة ما استعدوا به للتضحية بأنفسهم في سبيله.
وقد أتيح لي أن أذكر غيرَ مرة أن عبادة أيِّ مثلٍ عالٍ من أقوى العوامل في تطور المجتمعات البشرية، ويكفي أن يكون المثل الأعلى قوياً؛ ليمنح الأمة مشاعر مشتركة وآمالاً مشتركة وإيماناً متيناً يندفع به كلُّ واحد من أبنائها في التضحية بنفسه في سبيل نصره، وكانت عظمة رومة مَثَلَ الرومان الأعلى، وكان نيلُ حياة أخرى يُجتَنَى منها أطايبُ النِّعم مَثَلَ النصارى الأعلى، وتخيَّل الرجل العصري آلهة جددًا يقيم لهم تماثيل مع أنهم وهميون كقدماء الآلهة لا ريب، وذلك مع كفاية تأثيرهم الطيب لوقاية مجتمعاتنا القديمة من الزوال حينًا من الزمن، وليس التاريخ سوى رواية للحوادث التي قام بها الناس انتصارًا لمثلٍ عالٍ، ولولا تأثير المُثُل العليا ما تمدن الإنسان، ولظل في دور الهمجية، ويبدأ دور انحطاط الأمة حينما تعود عاطلةً من مَثَلٍ عالٍ محترم يستعد كل واحد من أبنائها لوَقْف نفسه عليه.
والمثل الأعلى الذي أبدعه محمدٌ دينيٌّ محض، والدولة التي أسسها العرب هي الدولة العظمى الوحيدة التي قامت باسم دين اشتُقت منه جميعُ نُظُمِها السياسية والاجتماعية.
وهل يكفي هذا المثل الأعلى القوي والعوامل الأخرى التي ذكرناها لإيضاح عظمة العرب؟ كلا.
تقدمنا في الإيضاح وقلنا: إن العالم القديم كان متصدعاً، وإن أمةً ذاتَ صفاتٍ حربية اتحدت بفضل معتقداتها المشتركة وصارت مستعدة لفتحه، وإنه بقي لهذه الأمة أن تستولي عليه فعلًا وتَحْفظه.
ورأينا كيف تمت فتوح العرب، وكيف أنهم لم تُفَلَّ عزائمهم ثانيةً، وأنهم تعلموا من غالبيهم ما كانوا يجهلون من فنون الحرب بعد أن خرجوا من جزيرتهم وغلبهم الوارثون الأخرون للسلطان الإغريقي الروماني، فلما تساوَوْا هم والروم في الأساليب الحربية لم يبقَ شكٌّ في تمام النصر لهم؛ لاستعداد كل جندي عربي لبذل نفسه في سبيل دينه، ولتوارِي كل إخلاص وحماسة وإيمان في جيش الروم منذ زمن طويل.
وكان يمكن أن تُعمِيَ فتوحُ العرب الأولى أبصارَهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويُكرهوهم على اعتناق دينهم الذي
شكل 2 - 3: فتى عربي من مصر العليا (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولو فعلوا هذا لتألبت عليهم جميع الأمم التي كانت غيرَ خاضعة لهم بَعدُ، ولأصابهم مثلُ ما أصاب الصليبيين عندما دخلوا بلاد سورية مؤخراً، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما نَدَر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يُفرض قسراً، فعاملوا، كما رأينا، أهل سورية ومصر وإسبانية وكل قطر استولَوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينَهم ومعتقداتهم غيرَ فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً، في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً مثل دينهم.
وما جَهله المؤرخون من حِلْم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونُظُمهم، ولغتهم التي
رسخت، وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونعدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يوفَّق فاتحوها من الفرس والأغارقة والرومان أن يقلبوا الحضارة الفرعونية القديمة فيها وأن يقيموا حضارتهم مقامها.
وهنالك أسباب أخر غيرُ تسامح العرب وحِلْمِهم ساعدت على انتشار دينهم ونظمهم المشتقة منه، وذلك أن هذه النظم كانت من البساطة، في الحقيقة، ما لاءَمت معه احتياجات طبقات الأهلين الوسطى البسيطة أيضاً، وإذا حدث اتفاقاً، أن كانت هذه النظم غيرَ ملائمة لهذه الاحتياجات عدَّلها العرب كما تقضي به الضرورة، وبهذا نفسر السِّرَّ في اختلاف نظم المسلمين في بلاد الهند وفارس وجزيرة العرب وإفريقية ومصر اختلافاً كبيراً في بعض الأحيان مع أن القرآن واحد.
والآن انتهينا إلى الزمن الذي أتمَّ العرب فيه فتحَهم للعالم، ولكنَّ بحثنا لمَّا يتمَّ، وذلك أن دور الفتح لم يكن سوى وجه واحد من وجوه تاريخ أشياع النبي، وأن العرب أبدعوا حضارةً جديدةً بعد أن فتحوا العالم، وأن الأسبابَ التي ذكرناها لا تكفي لإيضاح هذا الإبداع، فلا بد، إذن، من وجود عوامل أخرى.
وجد عاملان قاطعان في إبداع حضارة العرب، وهما بيئة العرب الجديدة وقابلياتُ ذكائهم.
والبيئة مما وصفنا آنفًا، ولم يَلبث العرب بعد خروجهم من صحارى جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بَهَرَهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي كما كانوا قد أدركوا تفوقها الحربي، فجدوا ليكونوا على مستواها من فورهم. ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاءً مثقفاً، وأثبتت الجهود الخائبة التي حاول البرابرة قروناً كثيرةً أن يدركوا بها معنى ما بَقِيَ من الحضارة اللاتينية صعوبةَ ذلك، ولم يكن العرب من البرابرة لحسن الحظ، ونحن، وإن كنا نجهل حضارتهم قبل ظهور محمد بزمنٍ طويل، أي حين كانوا ذوي صلات تجارية ببقية العالم، أثبتنا أنهم كانوا ذوي ثقافةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ أيامَ هذا النبي.
والحق أن الرجل الأديب المثقف يجهل أموراً كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة لِمَا فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد الذي أبدَوْا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة الحضارة التي واجهتهم فجأةً بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين منذ زمن طويل، فكانت هذه الحرية من أسباب تقدمهم السريع،