المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) خلاصة الحروب الصليبية - حضارة العرب - غوستاف لوبون

[غوستاف لوبون]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المترجم

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولالبيئة والعرق

- ‌الفصل الأولجزيرة العرب

- ‌(1) جغرافية جزيرة العرب:

- ‌(2) إنتاج جزيرة العرب:

- ‌(3) أقسام جزيرة العرب:

- ‌(3 - 1) بلاد الحجر العربية (بطرا):

- ‌(3 - 2) بلاد نجد:

- ‌(3 - 3) بلاد الحجاز:

- ‌(3 - 4) بلاد عسير

- ‌(3 - 5) بلاد اليمن

- ‌(3 - 6) بلاد حضرموت ومهرة وعمان والأحساء

- ‌الفصل الثانيالعرب

- ‌(1) مبدأ العرق كما أقرته العلوم الحديثة

- ‌(2) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق

- ‌(3) منشأ العرب

- ‌(4) تنوع شعوب العرب

- ‌(5) وصف الفوارق بين العرب

- ‌(5 - 1) عرب جزيرة العرب

- ‌(5 - 2) عرب سورية

- ‌(5 - 3) عرب مصر

- ‌(5 - 4) عرب إفريقية

- ‌(5 - 5) عرب إسبانية

- ‌(5 - 6) عرب الصين

- ‌الفصل الثالثالعرب قبل ظهور محمد

- ‌(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد

- ‌(2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد

- ‌(3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد

- ‌(4) أديان جزيرة العرب القديمة

- ‌الباب الثانيمصادر قوة العرب

- ‌الفصل الأولمحمد: نشوء الدولة العربية

- ‌(1) فُتُؤَّة محمد

- ‌(2) رسالة محمد

- ‌(3) محمد بعد الهجرة

- ‌(4) حياة محمد وأخلاقه

- ‌الفصل الثانيالقرآن

- ‌(1) خلاصة القرآن

- ‌(2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم

- ‌الفصل الثالثفتوح العرب

- ‌(1) حال العالم في زمن محمد

- ‌(2) طبيعة فتوح العرب

- ‌(3) خلفاء محمد الأولون

- ‌(4) خلاصة تاريخ العرب

- ‌القرن الثالث من الهجرة:

- ‌القرن الرابع من الهجرة:

- ‌القرن الخامس من الهجرة:

- ‌القرن السادس من الهجرة:

- ‌‌‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌الباب الثالثدولة العرب

- ‌الفصل الأولالعرب في سورية

- ‌(1) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب

- ‌(2) استقرار العرب بسورية

- ‌(3) حضارة سورية أيام سلطان العرب

- ‌(4) المباني التي تركها العرب في سورية

- ‌(4 - 1) جامع عمر

- ‌(4 - 2) المسجد الأقصى

- ‌(4 - 3) المباني العربية الأخرى في القدس

- ‌(4 - 4) برج الرملة العربي

- ‌(4 - 5) مباني العرب في دمشق

- ‌الفصل الثانيالعرب في بغداد

- ‌(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد

- ‌الفصل الثالثالعرب في بلاد فارس والهند

- ‌(1) العرب في بلاد فارس

- ‌(2) العرب في بلاد الهند

- ‌(2 - 1) منارة قطب

- ‌(2 - 2) باب علاء الدين

- ‌(2 - 3) مزار ألتمش

- ‌(2 - 4) معبد بندرابن

- ‌(2 - 5) مزار أكبر في سكندرا

- ‌(2 - 6) تاج محل في أغرا

- ‌(2 - 7) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا

- ‌(2 - 8) المسجد الكبير في دهلي

- ‌(2 - 9) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)

- ‌الفصل الرابعالعرب في مصر

- ‌(1) حال مصر حين الفتح العربي

- ‌واسمع جواب عمرو بن العاص:

- ‌(2) استيلاء العرب على مصر

- ‌(3) حضارة العرب في مصر

- ‌(4) مباني العرب في مصر

- ‌(4 - 1) جامع عمرو بن العاص (21 هـ/642 م)

- ‌(4 - 2) جامع ابن طولون (243 هـ/876 م)

- ‌(4 - 3) الجامع الأزهر (359 هـ/970 م)

- ‌(4 - 4) جامع قلاوون (683 هـ/ 1283 م)

- ‌(4 - 5) جامع السلطان حسن (757 هـ/1356 م)

- ‌(4 - 6) جامع برقوق (784 هـ/1384 م)

- ‌(4 - 7) جامع المؤيد (818 هـ/1415 م)

- ‌(4 - 8) جامع قايتباي (872 هـ/ 1468 م)

- ‌(4 - 9) المساجد التركية في القاهرة

- ‌(4 - 10) الآثار العربية الأخرى في القاهرة

- ‌الفصل الخامسالعرب في إفريقية الشمالية

- ‌(1) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي

- ‌(2) استقرار العرب بإفريقية

- ‌(3) مباني العرب في شمال إفريقية

- ‌(3 - 1) جامع القيروان

- ‌(3 - 2) مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان

- ‌(3 - 3) مساجد الجزائر

- ‌(3 - 4) مساجد مراكش

- ‌الفصل السادسالعرب في إسبانية

- ‌(1) إسبانية قبل العرب

- ‌(2) استقرار العرب بإسبانية

- ‌(3) حضارة العرب في إسبانية

- ‌(4) مباني العرب في إسبانية

- ‌(4 - 1) المباني العربية في قرطبة

- ‌(4 - 2) المباني العربية في طليطلة

- ‌(4 - 3) المباني العربية في إشبيلية

- ‌(4 - 4) المباني العربية في غرناطة

- ‌الفصل السابعالعرب في صقلية وإيطالية وفرنسة

- ‌(1) العرب في صقلية وإيطالية

- ‌(2) حضارة العرب في صقلية

- ‌(3) غزو العرب لفرنسة

- ‌الفصل الثامناصطراع النصرانية والإسلامالحروب الصليبية

- ‌(1) منشأ الحروب الصليبية

- ‌(2) خلاصة الحروب الصليبية

- ‌(3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق

- ‌الباب الرابعطبائع العرب ونظمهم

- ‌الفصل الأولأهل البدو وأهل الأرياف من العرب

- ‌(1) تمثل حياة قدماء العرب

- ‌(2) حياة أهل البدو من العرب

- ‌(3) حياة أهل الأرياف من العرب

- ‌(3 - 1) الحياة الاجتماعية

- ‌(3 - 2) المساكن

- ‌(3 - 3) الطعام

- ‌(3 - 4) الأزياء

- ‌الفصل الثانيعرب المدن: طبائعهم وعاداتهم

- ‌(1) المجتمع العربي

- ‌(2) المدن العربية، البيوت، الأسواق…إلخ

- ‌(2 - 1) المدن العربية

- ‌(2 - 2) المساكن

- ‌(2 - 3) الأسواق

- ‌(3) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن

- ‌(3 - 1) الولادة والختان

- ‌(3 - 2) الزواج

- ‌(3 - 3) المآتم

- ‌(4) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش)

- ‌(4 - 1) الحمَّامات

- ‌(4 - 2) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش

- ‌(5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون…إلخ

- ‌الفصل الثالثنظُم العرب السياسية والاجتماعية

- ‌(1) مصدر نظم العرب

- ‌(2) نُظُم العرب الاجتماعية

- ‌(3) نظم العرب السياسية

- ‌الفصل الرابعالمرأة في الشرق

- ‌(1) أسباب تعدد الزوجات في الشرق

- ‌(2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

- ‌(3) الزواج عند العرب

- ‌(4) الحريم في الشرق

- ‌الفصل الخامسالدينُ والأخلاق

- ‌(1) تأثير الدين في المسلمين

- ‌(2) الطقوس الدينية في الإسلام

- ‌(2 - 1) الفِرَق الإسلامية

- ‌(2 - 2) المباني الدينية

- ‌(3) الأخلاق في الإسلام

- ‌الباب الخامسحضارة العرب

- ‌الفصل الأولمصادر معارف العرب: تعليمهمومناهجهم

- ‌(1) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية

- ‌(2) مناهج العرب العلمية

- ‌الفصل الثانياللغة والفلسفة والآداب والتاريخ

- ‌(1) اللغة العربية

- ‌(2) فلسفة العرب

- ‌(3) الأدبُ العربيُّ

- ‌(3 - 1) الشعر عند العرب

- ‌(3 - 2) الروايات والأقاصيص

- ‌(3 - 3) الحكايات والأمثال

- ‌(3 - 4) التاريخ

- ‌(3 - 5) البيان والبلاغة

- ‌الفصل الثالثالرياضيات وعلم الفلك

- ‌(1) الرياضيات

- ‌(2) علم الفلك عند العرب

- ‌الفصل الرابعالعلوم الجغرافية

- ‌(1) ريادات العرب الجغرافية

- ‌(2) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية

- ‌الفصل الخامسالفيزياء وتطبيقاتها

- ‌(1) الفيزياء والميكانيكا

- ‌(2) الكيمياء

- ‌(3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات

- ‌(3 - 1) (المعارف الصناعية)

- ‌بارود الحرب والأسلحة النارية

- ‌الوِراقة

- ‌استخدام البوصلة في الملاحة

- ‌الفصل السادسالعلوم الطبيعية والطِّبية

- ‌(1) العلوم الطبيعية

- ‌(2) العلوم الطبية

- ‌(2 - 1) آثار العرب الطبية

- ‌علم الصحة عند العرب

- ‌تقدُّم العرب في الطب

- ‌الفصل السابعالفنون العربيةالرسم والحفر والفنون الصناعية

- ‌(1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار

- ‌(2) مصادر الفنون العربية:

- ‌(3) الجمال في فنون العرب:

- ‌(4) الفنون الصناعية العربية:

- ‌(4 - 1) التصوير:

- ‌(4 - 2) صنع التماثيل:

- ‌(4 - 3) صناعة المعادن والحجارة الثمينة:

- ‌(4 - 4) النقود والأوسمة:

- ‌(4 - 5) المصنوعات الخشبية:

- ‌(4 - 6) الفسيفساء:

- ‌(4 - 7) صناعة الزجاج:

- ‌(4 - 8) الصناعة الخزفية:

- ‌(4 - 9) المنسوجات والبسط والزرابي:

- ‌الفصل الثامنفن عمارة العرب

- ‌(1) معرفتنا الحاضرة لفن عمارة العرب

- ‌(2) عناصر فن عمارة العرب المميزة:

- ‌(3) المقابلة بين مباني العرب الفنية:

- ‌(3 - 1) مباني بلاد سورية:

- ‌(3 - 2) مباني بلاد مصر:

- ‌(3 - 3) مباني بلاد إفريقية الشمالية:

- ‌(3 - 4) مباني بلاد صقلية:

- ‌(3 - 5) مباني بلاد الأندلس:

- ‌(3 - 6) مباني بلاد الهند:

- ‌(3 - 7) مباني بلاد فارس:

- ‌ ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة:

- ‌(أ) الطراز العربي قبل ظهور محمد:

- ‌(ب) الطراز البيزنطي العربي:

- ‌(ج) الطراز العربي الخالص:

- ‌(د) الطراز العربي المختلط:

- ‌الفصل التاسعتجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم

- ‌(1) صلات العرب بالهند:

- ‌(2) صلات العرب بالصين:

- ‌(3) صلات العرب بإفريقية:

- ‌الفصل العاشرتمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب

- ‌(1) تأثير العرب في الشرق:

- ‌(2) تأثير العرب في الغرب:

- ‌(2 - 1) تأثير العرب العلمي والأدبي:

- ‌(2 - 2) تأثير العربي في فن العمارة

- ‌(2 - 3) تأثير العرب في الطبائع:

- ‌الباب السادسانحطاط حضارة العرب

- ‌الفصل الأولورثة العربتأثير الأوربيين في الشرق

- ‌(1) ورثة العرب في الأندلس:

- ‌(2) ورثة العرب في مصر والشرق:

- ‌(3) ورثة العرب في الهند:

- ‌(4) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم

- ‌الفصل الثانيأسباب عظمة العرب وانحطاطهمحالُ الإسلام الحاضرة

- ‌(1) أسباب عظمة العرب

- ‌(2) أسباب انحطاط العرب

- ‌(3) مقام العرب في التاريخ:

- ‌(4) حال الإسلام الحاضرة:

الفصل: ‌(2) خلاصة الحروب الصليبية

الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع، ويعده الناس نبياً في كل مكان.

ولم تكن الجموع التي ألهبها بطرس الناسك لتستطيع عمل شيء وحدها، وإنما حدث ما حفز السنيورات الذين كانوا سادة للجموع إلى دعم تلك الحركة، وذلك أن قيصر الروم، ألكسيس كومنين، الذي كانت دولته تخسر كل يوم قطعة من أملاكها، استغاث بالبابا وملوك أوربة حينما حاصر الترك القسطنطينية، فأقام ذلك العالم النصراني وأقعده بالإضافة إلى مواعظ بطرس الناسك.

ورأى البابا أن يشجع تلك الحركة، فعقد في إيطالية مؤتمراً ديناً لم يسفر عن نتيجة، ثم عقد في سنة 1095 م مؤتمراً ثانياً في كليرمون بأوفون، وحضر بطرس الناسك هذا المؤتمر الأخير، وتحالف المؤتمرون، تلبية لدعوته الصارمة وترديد الجموع الهائجة لكلمة:«الرب يريد ذلك» ! على الزحف إلى فلسطين لإنقاذ قبر الرب ملصقين الصلبان على أكتافهم، وأجمع المؤتمرون على أن يبدأ بالزحف في عيد انتقال العذراء من السنة القادمة حتى يجمع أولياء الأمور جيشاً كبيراً قادراً على القيام بذلك.

(2) خلاصة الحروب الصليبية

نشأ عن عزم القوم على غزو فلسطين اشتعال النفوس حمية، وصار كل واحد يرجو إصلاح حاله، فضلاً عما يناله في ملكوت السماوات، فغدا العبيد يطمعون في فك رقابهم، وغدا أبناء الأسر الذين حرموا الميراث بسبب نظام البكرية والسنيورات الذين كانت قسمهم ضئزى يطمعون في الاغتناء، وغدا الرهبان الذين أضنتهم حياة الأديار وجميع المحرومين طيب العيش، وكان عددهم كبيراً يعللون أنفسهم بأطيب الأماني.

حقاً لقد أصاب القوم نوبة حادة من الجنون، فرغب السنيورات والعبيد والرهبان والنساء والأولاد وجميع الناس في الزحف، وأخذ كل امرئ يبيع ما يملك ليتجهز، واستعد من الرجال 130000 مقاتل لغزو فلسطين حالاً.

وكانت تلك النوبة تزيد حدة كل يوم، ولم يرغب الذين بكروا في انتظار تأليف جيش منظم، وما كاد ربيع سنة 1096 م يحل حتى توجهت عصابات كبيرة من كل صوب وحدب إلى نهر الدانوب.

وكانت الحركة شاملة ما بين بحر الشمال ونهر التيبر، وكانت تجرف سكان بعض القرى آخذين ما عندهم من الأموال، وكانت أوربة كلها تنقض على آسية.

ص: 334

شكل 8 - 2: قسم من أسوار القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وكلما اقتربت تلك العصابات من هدفها المأمول زادت جنوناً، ودارت المعجزات والكرامات في أدمغتها المشتعلة التي طارت منها العقول إلى الأبد.

وكان بطرس الناسك والفارس الفقير غوتيه على رأس أهم العصابات الزاحفة إلى الشرق، وأكرمت هذه العصابات في البلدان الأوربية التي كانت تمر منها في بدء الأمر، ولكنها لم تكد تصل إلى بلغارية حتى التقت بأناس من ضعاف الإيمان أبوا أن يضيفوهم مجاناً، وساء هذا الرفض الصليبيين، ولم يحجموا عن اغتصاب ما منعوه، وعن نهب قرى تلك البلاد وذبح أهليها، ولم يصبر الأهلون على ذلك فأخذوا ينتقمون ويقتلون فريقاً كبيراً منهم أو يغرقونه، وجد الصليبيون في طلب النجاة بسرعة، وبلغوا القسطنطينية ناقصي العدد، ووجدوا فيها عصابات من التوتون والطلاينة والغسكون والغول والبروفنسيين كانت قد سبقتهم إليها، وهنالك انضم هؤلاء إلى أولئك، وأخذوا يقتلون وينهبون، ويأتون ما يفوق الوصف من الأعمال الوحشية، ويعزم البيزنطيون على التخلص منهم، وينقلونهم بالسفن إلى ما وراء البسفور.

وبلغ عدد من سيق من الصليبيين إلى آسية الصغرى على ذلك الوجه مائة ألف، واقترف هؤلاء من الجرائم نحو المسلمين والنصارى ما لا يصدر عن غير المجانين من الأعمال الوحشية، وكان من أحب ضروب اللهو إليهم قتل من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إرباً إرباً وشيهم كما روت آن كومنين بنت قيصر الروم.

ص: 335

وكان من حقوق الترك أن يقابلوهم بالمثل، ولذا صار الترك يتصدونهم كما يتصيدون الحيوانات المفترسة مقيمين من عظامهم هرماً عظيماً.

ولم يلبث جيش الصليبيين الأول المؤلف من مئات الألوف أن أبيد، وإنما كانت تأتي من خلفه فيالق منظمة تامة العدة مؤلفة من سبعمائة ألف مقاتل بقيادة أقوي السنيورات، أي كان يأتي من الفيالق ما لم يسبق للعرب أن جمعوا جيشاً لجباً مثله.

ومن هذه الفيالق نذكر الفيلق الذي كان يقوده دوك اللورين الدنيا، غودوفروا البويوني، والذي كان مؤلفاً من ثمانين ألف مقاتل من سكان اللورين وبافارية وسكسونية.

وحاصر الصليبيون مدينة إزنيق الواقعة في آسية الصغرى، وهزموا جيشاً تركياً، وقطعوا رؤوس جرحى الترك وربطوها بسروج خيولهم وعادوا إلى معسكرهم، ثم رموها إلى تلك المدينة التي كانت محاصرةً.

ولم يكن ذلك مما يرضي الأهلين، فسلم الأهلون -الذين علموا ماذا كان ينتظرهم- أمر أنفسهم إلى القيصر بالقسطنطينية، فاضطر حلفاؤه الصليبيون إلى القتال مرتدين.

وبقي على الصليبيين أن يقطعوا نحو مئتي فرسخ ليصلوا إلى سورية، وكان همهم مصروفاً إلى الاغتناء، ولم يحسنوا سياسة الأهلين، وخربوا البلاد، وكشر الجوع لهم عن أنيابه، واضطرب حبل نظامهم، وتفرقوا، وتقاتل من قادتهم القائدان المهمان: تانكريد وبودوين، ثم انفصل بودوين عن رفقائه هو وفيلقه كي يسلب ويحارب لحساب نفسه.

وفتكت الأمراض والمجاعة بالصليبيين فتكاً ذريعاً، وقنط بطرس الناسك من النصر وفر من المعسكر، وأعيد إليه، فاستقبله تانكريد بضرب العصي.

ودبت الفوضى في مفاصل الجيش الصليبي، وشاع التجسس فيه، وأمر بوهيموند بتقطيع الجواسيس وطهيهم وإطعامهم للجنود الجائعين، فتدابير كهذه تخبرنا عن حال جيش اضطر إلى اتخاذها.

ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين العزل والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.

ونرى في كل صفحةٍ من الكتب التي ألفها مؤرخو النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب

ص: 336

روبرت عن سلوك الصليبيين في مدينة مارات للدلالة على سياسة الصليبيين الحربية، وذلك بالإضافة إلى ما حدث حين الاستيلاء على القدس، قال المؤرخ الراهب التقي روبرت:

وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت؛ ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم! وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه؛ فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث، فيا لتلك الشعوب العمي المعدة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً، ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم، وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاقية لكي يباعوا فيها، وحدث قتل الترك ذلك في يوم الأحد الموافق 12 من ديسمبر، وإذ لم يمكن إنجاز كل شيء في ذلك اليوم قتل قومنا ما بقي من أولئك في اليوم التالي.

وليس من العسير أن ندرك رأي الشرقيين المتمدنين في أولئك، فتواريخهم مملوءة بما كانوا يوحون به إليهم من الاحتقار العظيم، قال الشاعر الفارسي الكبير سعدي بعد زمن:«لا يستحق أولئك أن يسمو بشراً.»

وكان عدد الصليبيين مليون شخص حينما خرجوا من أوربة، فأخذت المجاعة والأوبئة والدعارة والوقائع والمنازعات تبيد هذا الجيش العظيم الذي كان يمكنه فتح العالم لو ألف من أناس آخرين، ولم يبق منه عند بلوغه القدس سوى عشرين ألفاً.

وكانت القدس تابعة، في ذلك الحين، لسلطان مصر الذي استردها من الترك فاستولى عليها الصليبيون في 15 من يوليه سنة 1099 م، وقد جاء في الأقاصيص أن القديس جورج تراءى للصليبيين من جبل الزيتون، وأنه حرضهم على القتال فانقضوا على أسوار القدس واقتحموها.

وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، قال كاهن مدينة لوبوي، ريموند داجيل:

ص: 337

حدث ما هو عجيب بين العرب (! ) عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رءوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم (! ) وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا

شكل 8 - 3: منظر القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وروي ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:

لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة.

ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، فعقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفاً فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً.

ص: 338

وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهل القدس قاطبةً، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة، واغتاظ مؤرخو النصارى أنفسهم من سلوك حماة النصرانية مع اتصاف هؤلاء المؤرخين بروح الإغضاء والتساهل، فنعتهم برنارد الخازن بالمجانين، وشبههم بودان الذي كان رئيس أساقفة دول، بالفيروس التي تتمرغ في الأقذار.

شكل 8 - 4: الحرم الشريف في القدس، وفيه ترى ساحة جامع عمر في الوقت الحاضر وساحة هيكل سليمان فيما مضى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وهاج العالم الإسلامي من استيلاء الصليبيين على القدس كما هاج العالم النصراني، ولاح، لوقت قصير، تضعضع نفوذ أتباع النبي الذي تأصل منذ خمسة قرون، وتناسى المسلمون جميع عوامل الانقسام الذي كان يفت في عضدهم مع ما أحدثه ذلك الاستيلاء من الذعر الكبير فيهم، وأغضى سلطان القاهرة عن منافسته لخليفة بغداد فتبادلا السفراء للبحث في عمل ما يجب لتلافي تلك المصيبة.

أجل، لقد خسر النصارى مليون رجل، ورب بعض أوربة في سبيل فتح القدس، وكان النصارى يرجون أن يحتفظوا بثمرة هذا الفتح العزيز، غير أن أملهم خاب، فلم يلبث المسلمون أن استردوا القدس، وعادت القدس إلى حظيرة الإسلام إلى الأبد.

واختير غودفروا ملكاً على القدس لشجاعته التي أقام الدليل عليها، ولكن الشجاعة لا تكفي لتنظيم دولة، فقد كان غودفروا عاجزاً عن إدارة شؤون دولته الفتية مع شدة بأسه، ثم مات غودفروا بعد زمن قليل، ولم يكن خليفته بودوان أقدر منه على تدبير أمور الحكم.

ص: 339

وكان قد مضى على وجود الفرنج في فلسطين عشرون سنة حينما توفي بودوان في سنة 1119 م، ولم ينشأ عن حكم الفرنج لها سوى خرابها وإقفارها، وكان من نتائج هذا الحكم أن عرفت البلاد نظام الإقطاع كما في أوربة، وأن قمت إلى الإمارات الإقطاعية المتقاتلة على الدوام: طرابلس وعسقلان ويافا

إلخ، ولم يلبث طغاتها الغراء الذين لم يكونوا ليفكروا في غير الاغتناء أن خربوها بعد أن كانت زاهرة أيام الحكم العربي الرشيد، وإليك ما قاله أسقف عكا الصليبي جاك دوفيتري عن أنباء الصليبيين الأولين، وذلك في تاريخه عن القدس:

خرج من الصليبيين الأولين الأتقياء المتدينين جيل من الفجرة الأشرار الفاسدين المنحلين الفاسقين كما يخرج الثفل من السلاف والدردي من الزيت والشيلم من البر والصدأ من القلز

وكان هؤلاء الأبناء يختصمون ويقتتلون لأتفه الأسباب، حتى إن بعضهم كان يستعين على بعض بأعداء النصارى في الغالب .. ، وكان لا يرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والزناة والقتلة والخائنين والمهرجين والرهبان الدعار والراهبات العواهر.

ولم يكن غليوم الصور أقل صراحة من ذلك، فقد قال، بعد أن وصم أبناء الصليبيين بأنهم «من السفهاء الفاسدين والملاحدة الفاسقين»:«تلك هي رذائلهم الوحشية التي لو أراد كاتب أن يصفها؛ لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي.»

وبينا كان النصارى يخربون القدس كان المسلمون يستردون بالتدريج، ما خسروه، وقد أورث تقدمهم في سورية واستيلاؤهم على الرها (أورفة) هلعاً في قلوب النصارى بفلسطين، فاستغاث النصارى بأوربة.

ونظمت حملة صليبية ثانية لإمداد أولئك، ونجح سان برنارد في إيقاد نار التعصب الديني، فقد توجه ملك فرنسة لويس السابع على رأس الحملة الصليبية الجديدة إلى فلسطين، وتبعه الملك الألماني كونارد الثالث، غير أن جيش لويس السابع الذي كان عدده مائة ألف مقاتل لم يكد يصل إلى آسية الصغرى حتى أبيد على بكرة أبيه، ففر لويس السابع بطريق البحر ليذهب إلى أنطاكية، ويتوجه منها إلى القدس كحاج عادي، وما كان جيش كونارد الثالث أوفر حظاً من جيش لويس السابع.

ولم يبد سلوك الصليبيين في هذه الحملة الثانية أحسن من سلوك رجال الحملة الصليبية الأولى، قال الكاهن أنكتيل في تاريخه: «قلما كان يوجد صليبي يسير بوحي

ص: 340

ديني، فلم يترك أولئك الصليبيون جرائم وحشيةً وضرباً من قطع الطرق وفضائح مزرية إلا اقترفوها»، وعزا سان برنارد ذلك الحبوط إلى ما ارتكبه هؤلاء الصليبيون من تلك المظالم.

وتم طرد الصليبيين من القدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي الشهير، وذلك أن صلاح الدين دخل سورية بعد أن أصبحت مصر وجزيرة العرب والعراق قبضته، وأنه غلب ملك القدس الأسيف غي دولوزينيان، وأسره، واسترد القدس في سنة 1187 م.

ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش فيبيد النصارى على بكرة أبيهم، فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعاً سلب شيء منهم.

قضي على مملكة القدس اللاتينية بعد أن عاشت 88 سنة، ومرت سبعة قرون على تلك الحوادث من غير أن تخرج هذه المدينة المقدسة من أيدي أتباع محمد على الرغم من جميع الجهود التي قام بها العالم النصراني منذ ذلك الحين.

ولا نرى فائدة كبيرة في تاريخ الجهود غير المجدية التي قامت بها أوربة لاسترداد القدس، أي في تاريخ الحملات الصليبية الست الأخيرة، وإنما نكتفي بذكرها الخاطف.

ورئيس أساقفة مدينة صور في فنيقية، غليوم، هو الذي حرض أوربة على تجريد الحملة الصليبية الثالثة (1189 - 1192 م)، وقد قاد هذه الحملة الثالثة ملك فرنسة: فليب أوغست، وملك إنكلترة: قلب الأسد ريكاردس، وقيصر ألمانية: فريدريك بارباروس، أي أقوى ملوك أوربة.

فأما بارباروس: فقد مات في آسية الصغرى، حينما كان يغتسل في نهر البردان (قره صو)، ولم يصل سوى بقايا جيشه إلى سورية، وأما فيليب أوغست: فقد تعب سريعاً، وأبحر إلى صور بعد إقامة قصيرة بفلسطين تاركاً خلفه جيشاً مؤلفاً من عشرة آلاف مقاتل بقيادة أمير بورغونية، ولذا ظلت القيادة العليا في يد قلب الأسد ريكاردس الذي اقترف جرائم وحشية كالتي اقترفها رجال الحملة الصليبية الأولى.

وكان أول ما بدأ به ريكاردس هو قتله، أمام معسكر المسلمين، ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد ما قطع لهم عهداً بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان في اقتراف أعمال القتل والسلب.

وليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس ولم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد

ص: 341

شكل 8 - 5: منبر من رخام في الحرم القدسي يعرف بمنبر عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ريكاردس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته، وأدرك أنه لا يجوز أن يعامل أولئك الحمقى بغير ما تعامل به الوحوش الضارية.

وأكره ريكاردس من فوره على مغادرة فلسطين قبل أن يرى القدس، ولم يكن للحملة الصليبية الثالثة التي قادها ملوك أوربة الأقوياء الثلاثة المتحالفون نتيجة غير بقاء النصارى مالكين لبضع مدن الساحل.

ثم نظمت الحملة الصليبية الرابعة (1202 - 1204 م) بقيادة أمير الفلاندر: بودوان، وعزم الصليبيون في هذه المرة على بلوغ فلسطين بحراً، لا براً كما في الماضي، وأبحروا من ميناء زاره متوجهين إلى عاصمة الدولة النصرانية: القسطنطينية، ولما بلغوها رأي

ص: 342

بعضهم أن سورية لا تزال بعيدةً، وأن الصليبيين السابقين نهكوها غير تاركين فيها نهاباً، وأن كل الصيد في جوف القسطنطينية، فانضم بقية الصليبيين إلى هذا الرأي الصائب، وأخذوا ينهبون ما فيها وإن دخلوها حلفاء.

وكانت القسطنطينية تشتمل في ذلك الحين على ما تركه الأغارقة والرومان من كنوز الفن والأدب، ولم ير صليبيو أوائل القرن الثالث عشر في هذه الكنوز شيئاً نافعاً يمكن تقديمه إلى قبيلة من أصحاب الجلود الحمر (البوروج)، فصاروا يحطمون كل ما لم يكن من الذهب أو الفضة أو يلقونه إلى البحر، وصاروا يرون التماثيل الرخامية التي صنعها ليزيب وفيدياس وبراكزيتيل، ويتلفون، في يوم واحد، تأليف ديموستين وديودرس، وبوليب

إلخ. المهمة.

ولم يفكر بودوان وأصحابه في الزحف إلى فلسطين بعد أن شبعوا من الغنائم فنصب بودوان قيصراً، وأجاز البابا إينوسان الثالث ذلك مع بيانه أن الصليبيين اقترفوا أفظع الجرائم.

ولا احتياج إلى ذكرنا أن سلطة هذا القيصر الجديد كانت مؤقتةً، فلم يكن الصليبيون من غير الهمج العاجزين عن إقامة دولة دائمة وعن غير التخريب، ولم ينشأ عن إقامتهم القصيرة بالقسطنطينية غير إبادة كنوز العالم اليوناني اللاتيني القديم.

ولم تكن الحملتان الصليبيتان، الخامسة والسادسة، من الحملات المهمة، ولم تباليا بالجهاد في سبيل القدس، وإنما ذهب أكثر رجالهما إلى مصر طمعاً في الغنائم فاضطروا إلى التقهقر بعد أن أوغلوا قليلاً فيها.

وتوجه جيش صغير إلى القدس بقيادة فردريك الثاني الألماني الذي تعاهد هو والمسلمون، فسمح له المسلمون بدخول القدس حليفاً، فعاد إلى أوربة مكتفياً بهذه المجاملة الحقيرة.

ومع ذلك فإن الحملات الصليبية أخذت تفقد صبغتها الأوربية الشاملة التي اصطبغت بها في بدء الأمر، فقد قام مقام أخلاط الزمر الأولى، التي كانت تنقض على آسية، بعض السرايا الصغيرة التي ركبت كل واحدة منها متن هواها فلم تبحث عن غير ما فيه الثراء.

وظلت القدس، وفلسطين تقريباً، قبضة المسلمين على الرغم من الحملات الصليبية الخمس التي جردت بعد الحملة الصليبية الأولى، ثم عزم ملك فرنسة، سان لويس، على العود إلى الجهاد فجرد حملة صليبية سابعة في سنة 1248 م، وقد غادر إيغمورت على

ص: 343

رأس خمسين ألف مقاتل متوجهاً إلى مصر، وقد احتل دمياط، وزحف إلى القاهرة التي كسر جيشه قبل أن يبلغها، ووقع أسيراً، وافتدي نفسه، وذهب إلى سورية، وأقام بها سنتين من غير أن يظفر بطائل، ثم رجع إلى فرنسة قبل أن يرى القدس.

ولم تنثن عزيمة سان لويس مع هذا الانكسار، فقد جهز حملة صليبية جديدة بعد ست عشرة سنة، وقد غادر إيغمورت في 4 من يوليه سنة 1270 م على رأس جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً من المشاة وستة آلاف من الفرسان، وقد توجه إلى تونس طمعاً في حمل أميرها على انتحال النصرانية، فأصابه الطاعون حينما كان محاصراً لها، فمات في 25 من أغسطس سنة 1270 م.

وكانت تلك الحملة الثامنة أخرى الحملات الصليبية، فبها ختمت تلك المغازي الكبيرة إلى الأبد، وبقي المشرق خاضعاً لأتباع النبي العربي.

ولم يلبث النصارى أن خسروا ما كانوا يملكون من النواحي القليلة في فلسطين، وأراد البابوات أن يوقظوا حمية النصارى الدينية على غير جدوى، فقد فترت حرارة الإيمان في النفوس، وصار هم شعوب الغرب مصروفاً إلى أهداف أخرى.

ولا أحاول، في خاتمة هذه الخلاصة القصيرة التي سردتها عن تاريخ الحروب الصليبية، تسويغ ذلك الاعتداء الذي وجهته أوربة إلى المشرق أو ذمه، فأمور مثل هذه من نوع المجادلات التي تروق شبان المؤرخين ولا تستحق أن يبالى بها، ولا أعلم أن فاتحاً في القرون القديمة أو الحديثة فكر ثانية في عدل جهاده الحربي أو ظلمه ما لاءم ذلك الجهاد مصالحه، وما رأى وصوله إلى مقصده من غير خطر كبير، فإذا كتب له النجاح في جهاده كفاه نجاحه ولم يبق ما يستلزم تسويغه، ولم يعدم، عند الضرورة، فرسان بيان لتمجيد ما صنع، وإذا ما هجا بعض الكتاب مظالم القوة قائلين: إن على القوة ألا تتغلب على الحق كان ذلك من قبيل ذم الأمور الطبيعية غير المجدي، كشكوانا من السقم والهرم والموت.

حقاً إن مبادئ الحقوق النظرية المدونة في الكتب لم تكن دليل أمة في أي زمن، وإن المبادئ التي احترمتها الأمم هي التي أيدتها قوة السلاح كما أثبته التاريخ، وإن البابوات لم يسيروا على غير سنن الفاتحين في الماضي والمستقبل، حينما حرضوا النصارى على الحروب الصليبية الطاحنة المنافية لأبسط قواعد الإنصاف من الناحية النظرية، فلا يفيد لومهم على ما فعلوا، ولنترك، إذن، كل بحث من هذا النوع، ولندرس النتائج القريبة والبعيدة لذلك النزاع العظيم بين عالمين.

ص: 344