الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر أنها تشابه مباني قدماء المصريين، والحق أنه لا أحد يستطيع في الوقت الحاضر أن يأتيَ مثلَ هذا الزعم، فإذا وُجد طِرازان متباينان أشد التباين من جميع الوجوه كان ذانك الطِّرازان الطراز الفرعوني والطراز العربي، ولن يجد المرء مثالاً يستند إليه في اقتباس العرب شيئًا من الفراعنة مهما كان صغيراً.
ولم يدُر في خَلَدنا أن نُفَصِّل في فصل مختصر كهذا الفصل تاريخَ فنِّ العمارة العربي الذي غفل العلم عن بيانه، ومع ذلك فإنه يمكننا أن نذكر تقسيماته الأساسية، وأن نُبيِّن وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بين البنايات التي أقيمت على الطراز العربي، والتي لا تزال ماثلةً في الأقطار الممتدة من الأندلس إلى الهند.
وليس هذا العمل سهلاً كما يُظن، فهو يتطلب منا أن نسلك طريقًا لم يَسبقنا إليها أحد، فضلاً عن عدم اتساع دائرة هذا الكتاب لغير أهمِّ البواعث.
(2) عناصر فن عمارة العرب المميزة:
بينا في الفصول السابقة مصادر فن العمارة العربي، وذكرنا فيها ما اقتبسه العرب من الفرس والبيزنطيين، وأوضحنا كيف تحرروا من هذه المصادر، وانتهوا إلى إبداع طرازٍ مستقل خَصِب.
وإنني، قبل أن أبحث عن المباني التي تركها العرب في مختلف البلدان بحثًا جامعًا، أرى أن أدرس العناصر التي يتألف منها فنُّ عمارتهم درساً موجزاً:
المواد الإنشائية: تختلف المواد الإنشائية التي استخدمها العرب في إقامة مبانيهم باختلاف البلدان التي استولوا عليها وباختلاف مقاصدهم من إنشائها، وكان الآجرُّ أولَ ما استعملوا في إنشائها، ولسُرعان ما استخدموا الحجارة في إقامة ما هو مهم منها كقصر العزيزة، وقصر القبة في صقلية، وجامع السلطان حسن في القاهرة
…
إلخ، وكانوا في الأندلس يستعملون في إنشاء مبانيهم، غالبًا، نوعًا من البِيتُون الذي هو مزيجٌ من المواد «الكلس والرمل والصلصال والحصباء» التي لا تلبث أن تصبح طبقة صلبةً كحجارة النقش.
ويقال: إن عيب المباني العربية في قلة متانتها، فإذا صح هذا القول بالنسبة إلى الكثير منها فإنه غير صحيح بالنسبة إليها كلِّها، وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا إنشاء بناء على جَنَاح السرعة، مكتفين بالظاهر، أقاموه غيرَ متين كما نقيم بيوتنا في الوقت الحاضر، وأن ما شادوا من المباني التي لا تزال قائمة مع مرور أكثر
شكل 8 - 2: أبراج عدة كنائس في طليطلة أقيمت تقليدًا لمآذن عربية قديمة.
من ألف سنة عليها يدل على معرفتهم إنشاء بناياتٍ خالدة عند الضرورة، وها هي ذي قصورهم البسيطة، كقصورهم في صقلية، لا تزال تقاوم تقلبات الفصول مع مرور ثمانمائة سنة عليها، وها هو ذا قصرُ الحمراء نفسه لا يزال يقاوم مع خفته الظاهرة.
الأعمدة وتيجانها: وَجد العرب، في جميع البلاد التي استولَوا عليها، عدداً كبيراً من المباني الإغريقية والرومانية والبيزنطية المتداعية أو المهجورة، وانتفعوا بأعمدتها وتيجان أعمدتها، كما تشهد بذلك مبانيهم الأولى التي تضم عددًا غير قليل من الأعمدة الغربية المصدر، ولما استنفد العربُ ما وَجدوا اضطروا، بحكم الطبيعة، إلى إنشاء ما احتاجوا إليه منها بأنفسهم، وطبعوا عليه طابَعهم الخاص الذي كانوا يعرفون كيف يطبعونه على جميع آثارهم كالأعمدة وتيجان الأعمدة التي لم تُشتَقَّ من أي طراز آخر كما قال مسيو. ج. دوبرانجه، والتي تُرى في قاعة الأسود من قصر الحمراء، فيجب عَدَّها خاصةً بالعرب من كلِّ وجه.
شكل 8 - 3: برجا كنيستين في طليطلة أقيما تقليدًا لمآذن عربية قديمة.
الأقواس: إن القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نعل الفرس مما امتاز به فن العمارة العربيُّ، فيشاهد في المباني العربية الأولى. وإن استعمال القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نصف الدائرة معًا مما رأيتُ في أقدم المباني العربية في أوربا وآسيا وإفريقيا، فأتيحَ لي درسُه.
والقوس المصنوعة على رسم البيكارين مع كَسْرَةٍ خفيفة في أعلاها وخَصرٍ خفيف في أسفلها مما تَجِد في المباني العربية التي شِيدَت في دورٍ لاحق؛ فيحتاج المرء إلى شيء من الانتباه ليتبينه فيها، وتكفي هذه الأقواس، التي وُجدت مع ذلك لمَنح المنحنِي شكلاً رائعاً.
ثم تطورت القوس المصنوعة على رسم البيكارين في مصر وصِرْتَ لا ترى لأسفلها خصراً، وذلك خلافاً لما اتفق لها في الأندلس وإفريقيا حيث اكتسبت شكل نعل الفرس أو القوس المجاوِزة، وأصبحت هذه القوس صفةً لفن العمارة العربي فيهما في بعض الأزمنة.
شكل 8 - 4: برج كنيسة سانتياغو العربي في طليطلة (من صورة فوتوغرافية)
وقد قيل: إن القوس المجاوِزة (المصنوعة على شكل نعل الفرس) كانت معروفةً عند البيزنطيين، ولكن هذا لم يستند إلى دليل ما دامت تلك القوس غير مشهودة في معظم مباني ذلك الزمن، وأرى، مع ذلك، أنها لم تكن مجهولة فيه، وإن كانت قليلة الاستعمال، والحق أنني وَجَدت في كنيسة كابْنِيكارْيا، التي أقامتها القيصرة أودوكسي في أثينا 418 م، على حسب ما جاء في كتابةٍ تَبَيَّنتُها على عمود، أقواسًا مجاوِزةً قليلاً جداً، وظهرَ ارتداد أسفل القوس منها إلى داخلها من الضعف بحيث يحتاج إدراكه إلى شيء من الدقة.
المآذن: أوجبت ضرورةُ دعوة المؤمنين إلى الصلاة، وَفْقاً لأحكام الدين، إقامةَ المآذن فوق جميع المساجد الإسلامية كما هو معلوم، وتختلف أشكال هذه المآذن باختلاف البلدان اختلافاً أساسياً، فهي مخروطة الشكل في بلاد فارس، ومُربعةٌ في بلاد الأندلس وإفريقية، وأسطوانيَّةٌ ذاتُ مِطفأةٍ في أعلاها في تركية، ومتنوعة الشكل في كل طبقة منها بمصر.
ونرى الكثير من مآذن مصر، ولا سيما مِئذنة قايتباي في القاهرة، من العجائب، ولا شيء أدل على دقة العرب وذوقهم الفني من قدرتهم على تحويل البروج البسيطة، ويتجلى الفرق الكبير بين ذوق العرب الفني، وذوق الترك عند مقابلة تلك المآذن العربية بالمآذن التركية على الخصوص.
ومآذنُ العرب، كأكثر مبانيهم، مُتَوَّجةٌ -على العموم- بأنواع الشُّرف ذات الأشكال المختلفة المعروفة بأقسام الحواجز الواقعة بين الكُوَى، ونعدُّ من هذه الأشكال: الدُّرَقَ، والنصل، والحربة، والمنشار
…
إلخ، والمناور، وإن عُرِفت في بلاد فارس أيام بني ساسان، كانت أشكالها أقلَّ تنوعًا من تلك بدرجات.
القِبَاب: ليست القباب مما اخترعه المسلمون وإن كان أصل الكلمة عربياً، فقد كانت القباب معروفة عند البيزنطيين، وكان للأكاسرة من بني ساسان قِبابٌ في قصورهم، وإنما العرب هم الذين ابتكروا القِباب الهيف ذاتَ الخَصر، ويتألف من مرور مقطع القُبة العربية العمودي من مركزها خطٌّ مُنحنٍ يذكِّرنا بشكل القوس العربية، ثم أفرط الفرس في حَنْو قِبابهم، فانتهوا إلى شكلها البَصَلِيِّ الذي سنتكلم عنه قريباً.
ويختلف شكل القباب العربية باختلاف البلدان؛ فهي منخفضة في إفريقية، ولا سيما القيروان، انخفاضَ القباب البيزنطية، ويُرى على كل مسجد فيها عدةُ قباب من هذا الطراز، والقِباب في مصر -على العموم- هي من الطراز التي وَصَفْنَاه آنفاً، ولا تُرَى على المساجد فيها، بل على المزارات أو على الحجرات المجاورة للمساجد والمشتملة على أضرحة، وكلما شاهدت في مصر قبَّةً على مسجد أمكنك أن تقطع بوجود ضريح فيه.
وهنالك بعض الشبه بين القباب المصرية والقباب السورية، أو قُبة جامع عمر ذات الخصر الضيق قليلاً على الأقل، وإن كانت القباب السورية أقلَّ هَيَفاً، وأكثر وزنًا، وعاطلةً من الزخارف الخارجية.
شكل 8 - 5: باب بيزاغرة (باب شقرة) في طليطلة.
وترى في مصر، ولا سيما في المقبرة القريبة من أسفل قلعة القاهرة، والتي سميتها سَهْلَ القبور، وذلك في الصورة التي نشرتها لها، تمييزاً لها من المقبرة الأخرى المعروفة باسم مزارات الخلفاء، جميعَ أنواع القِباب، كالقباب التي هي على شكل نصف الدائرة، والقباب الإهليجيَّة، والقباب الأسطوانية، والقباب المخروطة، والقباب المجاوزة، والقباب المُقَرَّنة
…
إلخ.
المتدليات «المقرنصات» : يظهر أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبه الأغارقة من الأوجه المُلْسِ المُوَحَّدة والزوايا والأشكال القائمة، فكانوا يُنشئون الكُوَّاتِ الصغيرةَ الناتئة المثلثة الكُرِيَّة المسماة بالمُتَدَلِّيَات؛ لتَدَلي بعضِها فوق بعضٍ في الفضاء تدلياً هندسياً تدريجياً يذكِّرنا بخلايا النحل، وذلك لِمَا نرى من رغبتهم في ملء زوايا الجُدُر القائمة، وفي وَصْلِ القباب المستديرة بما تقوم عليه من الرِّدَاه المربعة وصلاً غير محسوس، وقد استُعمِلت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والقرن الحادي عشر من الميلاد، وقد حوَّل عرب الأندلس تجوفاتها الكرية إلى مواشير قائمةٍ ذات وجوه مقعرة.
والمتدليات مما انفرد به العرب، ولم توجد عند أية أمة حتى الآن، وما كاد القرن الثاني عشر من الميلاد يَحِلُّ حتى كان أمرها شاملاً لجميع البلدان الإسلامية،
شكل 8 - 6: منظر في داخل قصر الحمراء (من صورة قديمة).
وقد استخدمها العرب في ربط أطناف أروقة المآذن بأوجهها القائمة، وفي ملء قباب المساجد، وفي وصلها بالجدر القائمة عليها، وفي وَصل القباب الكرية بالأوجه المربعة
…
إلخ.
حقاً إن المتدلِّيات مما امتاز به الفن العربي، ولا أوافق على رأي مسيو شارل بلان القائل:«إنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة» ، فالمتدليات كثيرة في داخل المباني، حيث لا فائدة في إحداث الظل، كثرتها في خارجها، ولم تنشأ متدليات المآذن، كذلك عن «ضرورة إحداث أروقة عالية لدعوة المسلمين منها إلى الصلاة» ، ما رأينا مآذن الآستانة ومآذن بلاد فارس ذات أروقة عاطلة مما يشاهد في مآذن مصر من المتدليات، وإنما الذي أراه هو أن اختراع العرب للمتدليات نشأ عن
كُرههم للزوايا والأوجه الموحدة المُلس، كما ذكرت آنفاً، ويتجلى هذه الكره في جميع آثارهم الفنية، سواء أكانت مآذن أم جلودَ قرآن أم دُوِياً.
النقوش العربية ودقائق الزخرف: زخارف المباني العربية ذات طابع خاص ينتبه إليه، في الحال، حتى أجهل الناس بفن العمارة، وهذه الزخارف المؤلفة من رسومٍ هندسية ممزوجة بالكتابات من الأمور التي نرى رسمها أسهل من وصفها، وهي تابعةٌ لقواعد بسيطةٍ نص عليها مسيو بُرغوان على الرغم من ظواهرها الخيالية.
وكانت النقوش العربية تُنْقَر في الحجر كما في كثير من مساجد القاهرة، أو تُصَبُّ في قوالب كما في قصر الحمراء.
وللخط العربي شأنٌ كبير في الزخرفة، ولا غرو فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم يُستعمل في الزخرفة، حتى القرن التاسع من الميلاد، غيرُ الخط الكوفي ومشتقاته كالقرمطي والكوفي القائم الزوايا.
وتؤخذ هذه الكتابات من القرآن على العموم، وأكثر هذه الكتابات استعمالاً هو السطر الأول من القرآن، وهو:«بسم الله الرحمن الرحيم» أو القول الجامع الذي يلخص به الإسلام وهو: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.»
وقد بلغ الخط العربي من الصلاح للزينة ما كان رجال الفن من النصارى في القرون الوسطى وفي عصر النهضة يُكثِرُون معه من استنساخ ما كان يقع تحت أيديهم اتفاقًا من قطع الكتابات العربية على المباني المسيحية تزييناً لها سائرين في ذلك مع الهوى، وقد شاهد مسيو لنغيريه ومسيو لافوا وغيرهما الشيء الكثير منها في إيطالية، ومما شاهده مسيو لافوا في مكان الأمتعة من كاتدرائية ميلانو «بابٌ مبنيٌ على طراز رسم البيكارين يحيط به إفريزٌ حجريٌ مؤلفٌ من كلمة عربية مكررةٍ عدة مرات وكتابةٌ عربيةٌ حول رأس المسيح المصور فوق أبواب القديس بطرس التي أمر بإنشائها البابا أوجين الرابع، وخطوطٌ كوفية طويلة على قميص القديس بطرس والقديس بولس، ومن دواعي أسفي عدم ترجمة هذا الكاتب لهذه الكتابات، فلعل الكتابة التي حول رأس المسيح هي كلمة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله! »
الزخارف الملونة: اعتقد الناس زمناً طويلاً أن الأغارقة لم يلونوا مبانيهم وتماثيلهم، وإذ كان للقواعد التي اصطلح عليها الأغارقة قوةُ القانون عند الأمم اللاتينية نشأ فينا ذوقٌ مصنوع صِرنا نُعد به المباني البيض أبنيةً جميلةً جداً، غافلين عن أن أشعة الشمس على المباني البِيض تُعمي الأبصار وتُغرِق دقائقها، وعن أننا نُعْجَب بها بقوة
التقاليد فقط، ومن الحظ الحسن أن أثبتت المباحث الحديثة أن أذواق الأغارقة كانت تختلف عما عُزِيَ إليها، وأن الكثير من مبانيهم كان مستوراً بالألوان، وأن اللون الأزرق واللون الأصفر واللون الأحمر أكثر الألوان استعمالًا فيها، وأن أعالي العَمَد في معبد إجين كان مصبوغاً باللون الأحمر المتشعِّبة منه تروسٌ مذهبة، وأن مُقَدَّمه كان مصبوغًا باللون الأزرق المموَّه بأطُرٍ حُمْرٍ وخُضْرٍ.
وفضل العرب، بأذواقهم الفنية الغريزية، ملوَّن المباني على بيضها، وكانت نقوشهم العربية مغطاةً، على العموم بألوان يدل تنضيدها على معرفة كبيرة وذوق سليم، وكانت جدر الحمراء ووجوهها والجدر الخارجية للمساجد مستورةً بأزهى الألوان.
شكل 8 - 7: دقائق زخارف عمود وتاجه في قصر الحمراء.