الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هنالك حانت ساعة انحطاط مصر، ثم شملها سلطان الأوربيين الحديث الخفي فلم يزدها إلا انحطاطاً.
وصارت مصر ولاية تركية، ولم يلبث المماليك الذين قهروا في بدء الأمر أن عاد إليهم نفوذهم الحقيقي، وكان المماليك من أشد من حاربهم نابليون، ولم تنج مصر منهم إلا بفضل الجبار الذكي محمد علي الذي قتلهم على بكرة أبيهم.
وكان المماليك يجمعون بانضمام أناس إليهم من الخارج، أي كان شراكسة مصر يشترون الموالي من بلاد الشركس؛ لإتمام عددهم ما دام جو مصر القتال لا يلائم تناسل الأجانب، وكان شراكسة مصر ينقادون لفريق من بكواتهم الذين ظلوا يختارون أجمل غلمان الشركس لكتائبهم.
(3) حضارة العرب في مصر
استقت حضارة العرب في مصر من الينبوع الذي استقت منه حضارتهم في سورية وبغداد، وقامت حضارتهم في مصر بعناصر اقتبسوها من البيزنطيين على الخصوص، ودلت مباني العرب الأولى في مصر على ذلك المصدر، ولم يلبث العرب أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية كما تدل عليه مبانيهم التي أقيمت بعد مباني الزمن الأول.
ويتصف عصر الفاطميين، الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون، وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون لا العلوم، فمدارس القاهرة لم تبلغ من الشهرة ما بلغته جامعات بغداد، وسنعود إلى هذا حينما نبحث في النواحي الثقافية من حضارة العرب التي لا نبحث في غير قسمها المادي الآن.
وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد في نهاية الأمر، وذلك بفضل خصب أرضي مصر وصلاتها التجارية التي سنتكلم عنها في فصل آخر، وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور، ولم تكن نفقات الإنشاء في ذلك العهد باهظة في وادي النيل ما دامت أجرة البناء اليومية في أوائل القرن الحاضر ثمانين سنتيماً، وأجرة الحفار خمسة عشر سنتيماً، وثمن متر حجر البناء المكعب، ومنه أجرة قلعه ونقله، فرنكاً واحداً وعشرين سنتيماً.
وضربت الصناعة والصياغة والحياكة والنجادة والزخرفة بسهم كبير في الكمال في زمن الفاطميين (972 م-1171 م) كما روى المؤرخ العربي المقريزي الذي جاء البحث
شكل 4 - 9: باب السيدة بالجامع الأزهر في القاهرة (من تصوير كوست).
في آثار زمانه مصدقاً لروايته، فكانت جدران البيوت تغطى بألواح القاشاني المطلي أو بالملاط الكلسي الرخامي المزين بالزخارف الزاهية والنقوش العربية كما نتمثله بسهولة من بعض القصور العربية الحاضرة في القاهرة، وكانت أرض تلك القصور تفرش بالفسيفساء، أو البسط الموشاة، وكان أثاثها يصنع من الخشب الثمين المرصع بالصدف أو العاج، وكانت متكآئها ذات رياش مزين في لحمته بصور الحيوان، وكانت نمارقها تكتسي بالنسائج الأرجوانية الرائعة.
وارتقت الصناعة المعدنية في زمن الفاطميين إلى حد بعيد أيضاً، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من الأواني والأكواب والأباريق والأطباق والمصابيح، وغيرها من ألوف المصنوعات التي نشرنا صور نماذج كثيرة لها في هذا الكتاب.
شكل 4 - 10: القسم الأعلى من مآذن الجامع الأزهر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت قصور الخلفاء الفاطميين فخمة، ويثبت ما نراه في المساجد المصرية القديمة، التي ظلت قائمة، من الزخرف أنه لم يكن في وصف الكتاب لها شيء من المبالغة.
وقص المؤرخون علينا نبأ القصر العربي القديم الذي بناه خمارويه ابن طولون سنة (271 هـ/884 م)، أي قبل ظهور الفاطميين، فقد كان يحيط بذلك القصر، على حسب ما جاء في الأخبار العربية، رياض واسعة ذات زهور على شكل آي من القرآن، وكان يرى في رداهه الذهبية المقه تماثيل لذلك الأمير ونسائه ذات ثياب ثمينة، وكانت له حظيرة جميلة للحيوانات الكثيرة، وكان يوجد تحت أحد أروقته الرخامية حوض زئبق عرضه ثلاثون متراً فينعكس عليه نور النهار وأشعة القمر والنجوم، وكان يشاهد من جوسق أنيق فيه منظرٌ جميلٌ لحدائقه وللنيل والريف.
شكل 4 - 11: نافذة في جامع السلطان قلاوون.
ولا تكفي الأوصاف المختصرة التي جاءت في كتب العرب عن القصور العربية في مصر منذ ألف سنة، فترانا مضطرين إلى إتمامها بما رواه أوربي يدعى غليوم الصوري في كتابه التاريخي عن حروب أمراء النصارى في فلسطين مستنداً إلى ما قصه السفراء الذي أرسلوا إلى بلاط ملك مصري، قال غليوم الصوري:
نعتمد في وصف قصر الأمير الرائع الذي لم يكن له نظير في زماننا على ما قصه أولئك السفراء الذين زاروه فرأوا فيه ما ليس في غيره من الجلال والنضارة والعظمة، فقد وصل أولئك السفراء، بعد أن مروا من مسالك وقاعات كثيرة، إلى أروقة النزهة، والرياضة ذات العماد المرمرية، والسقوف الذهبية الدقيقة الصنعة والبلاط الزاهي الألوان، وبهرهم جمال ما رأوا فبهتوا، ولم تشبع عيونهم من النظر إلى تلك البدائع التي لم تكن لتخطر على قلوبهم، ومما
شاهدوه: حياض السمك الرخامية، وأنواع الطيور المغردة الملونة البراقة التي لم يسبق لنا علم بها، ثم طاف الخصيان بهم في غرف تفوق ما تقدم حسناً ورواءً، ومما رأوا هنالك أنواع ذات القوائم الأربع العجيبة، التي لا يقدر على تصويرها سوى ريشة رسام تابع لهواه أو شاعر متحلل أو من يسبح روحه في أحلام الليل، والتي تنتجها بلاد الجنوب والشرق لا بلاد الغرب التي لا تراها، والتي قلما تسمع عنها شيئاً.
ويمكن تصور ما كان عليه الخلفاء الفاطميون من الثراء عند النظر إلى قائمة الأموال التي روي المؤرخ المقريزي أن الخليفة المستنصر (427 هـ/1037 م) اضطر إلى بيعها؛ إرضاء لأولئك المرتزقة الذين تكلمنا عنهم آنفاً، وقلنا: إنهم استبدوا بالملك تقريباً، ولا يطعن في صحة رواية المقريزي الذي استند إلى محضر وكيل الوزير ناصر الدولة، فالمرء حين يقرأها يرى أن ثروات العالم التقت وتكدست في مصر منذ قرون كثيرة؛ لكي تنثر على أحط الجنود في آخر الأمر كما قال مسيو مارسيل.
قال مسيو مارسيل نقلاً عن المقريزي:
ذكر في تلك القائمة العجيبة ما لا حصر له من أمداد الزمرد والياقوت واللآلئ والمرجان، وما إلى ذلك من الحجارة الكريمة، وذكر فيها 18000 من آنية البلور، ثمن بعضها ألف دينار (15000 فرنك)، و 36000 قطعة أخرى من البلور، وبساط من الذهب وزنه 54 أوقية، وأربعمائة قفص كبير من الذهب، و 22000 جلية من العنبر، وعمامة مرصعة بالجواهر قيمتها 13000 دينار (1950000 فرنك) وديوك وطواويس وغزلان ذات حجم طبيعي مصنوعة من الذهب ومرصعة باللآلئ والياقوت، وموائد مصنوعة من اليصب كبيرة يستطيع أن يجلس حولها آكلون كثيرون معاً، ونخلة من الذهب في صوان من الذهب، وثمار وأزهار ذات حجم طبيعي من اللؤلؤ والياقوت، وحديقة ذات تراب من الفضة المذهبة، وأرض من العنبر، وأشجار من الفضة وثمرات من الذهب والحجارة الكريمة، وخيمة مصنوعة من المخمل والديباج الموشى بالذهب، دائرتها خمسمائة ذراع (625 قدم) وارتفاعها 64 ذراعاً (90 قدماً) وبسطها تعدل حمل مائة بعير، وخيمة أخري مصنوعة من الإبريز قائمة على أعمدة من الفضة، وأخبية وزنها ثلاثة قناطير، وألفان من الزرابي المزخرفة
بالذهب ثم إحداها 22000 دينار (330000 فرنك) وثمن أقلها ألف دينار (15000 فرنك)، وخمسون ألف قطعة من النسائج الحريرية الموشاة بالذهب
…
الخ.
وذلك إلى أن أمين بيت المال ابن عبد العزيز ذكر في قائمته أكثر من مائة ألف سلعة ثمينة ومئتي ألف قطعة من السلاح سلمت أمامه.
شكل 4 - 12: شارع في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ويسأل الإنسان، عندما يعلم مقدار تلك الثروات: من أين أتت؟ ومن أي ينبوع كان الخلفاء يأخذون دخلهم الذي استطاعوا أن يجمعوا من الكنوز ما لا يملك مثله أي واحد من ملوك الزمن الحاضر؟
كانت ثروة الخلفاء الفاطميين تستند إلى مصدرين مختلفين: الحاصلات الزراعية والأعمال التجارية، والواقع أن مصر كانت مستودعاً للتجارة بين أوربة والهند وجزيرة العرب، وأن جميع سلع الشرق كانت تمر، مضطرة، من طريق الإسكندرية إلى الغرب.
وروى فريسكو بالدي الفلورنسي أنه كان يُرى من السفن في ميناء القاهرة في زمانه، أي في سنة 1384 م، أكثر مما في جنوة أو البندقية، وأن عدد الزوارق في نهر