الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شكل 7 - 3: قطعتان من نقود الخليفة عمر
(2) مصادر الفنون العربية:
يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجدًا كان ذلك البناء أو قصراً، أو أن ينظر إلى ما صُنع فيه من دَوَاة أو خِنْجَر أو جلد قرآن؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى؛ فالإبداع من مصنوعات العرب تام واضح.
والأمر يكون غير ذلك عندما ندرس آثار العرب في بُداءة الحضارة العربية بدلاً من درس آثارهم أيام ازدهارها، فلتلك الآثار صلة واضحة بفنون الفرس والبيزنطيين الذين ظهروا قبل العرب.
ورأى كثيرٌ من العلماء ما بين آثار العرب الفنية الأولى وآثار بعض الأمم الشرقية من صلة؛ فاستنتجوا من ذلك أن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر، مع أن الوقع أن كل أمة تنتفع بآثار الأمم التي تقدمتها قبل أن تصبح صاحبة لآثار فنية ذاتية، وذلك كما يقال بَسْكال بحق:«إنه يجب عد سلسلة الآدميين الذين ظهروا بتعاقب القرون إنساناً واحداً حياً في كل زمان محصلاً للمعارف على الدوام» ، والواقع أن كل جيل يستفيد في البداءة مما ادخرته الأجيال السابقة، وهو يضيف إليه إذا كان على ذلك من القادرين.
ولم تشذ أمة عن هذه السنة، وليس من الممكن تفسير أمر أمة يزعم عدم اتباعها لها، ومن ذلك أن عدت الحضارة اليونانية، إلى وقت قريب جداً، وذلك حين كانت مصادرها خافية تماماً، أنها غير مدينةٍ بأي شيء للأمم الأخرى، فأثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين، ولا ريب في أن قدماء المصريين أنفسهم أخذوا عن أمم أخرى ظَهَرَت قبلهم، ولو لم نَفْقِد أكثر حلقات السلسلة التي
شكل 7 - 4: قطعة حلي عربية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
تربطنا بشعوب القرون الخالية الأولى؛ لاستطعنا أن نعود إلى الوراء بالتدريج فنَتَمَثَّل العصر الحجري الذي كاد الإنسان يتصل فيه بأنواع الحيوان التي تَقَدَّمته.
وقد استفاد العرب والأغارقة والرومان والفينيقيون والعبريون وكل أمة أخرى من مجهودات الماضي، ولولا ذلك لكان لِزامًا أن تبدأ كل أمة بما بدأت به الأمم الأخرى ولسد باب التقدم، وكل ما تفعله الأمة في بدء الأمر هو أنها تقتبس من الأمم التي جاءت قبلها، ثم تضيف إلى ما أخذته أمورًا أخرى، وقد اقتبس الأغارقة في بدء أمرهم ما عند قدماء المصريين والآشوريين، ثم حولوا المعارف التي لم يبتدعوها بما أضافوا إليها من الإضافات المتتابعة، ثم اقتبس الرومان ما عند اليونان، ولكن الرومان إذ كانوا دون اليونان فناً لم يَضُمُّوا إلى ما أخذوا عنهم إلا قليلاً، ولم يصنعوا غير طبع الفن اليوناني بطابع الجلال والعظمة الذي هو عنوان دولتهم الكبرى.
ثم نُقل مقر دولة الرومان إلى بيزنطة، وتبدل فنُّهم بما أضُيف إليه من الزيادات التي اقتضتها مشاعر الأمم الجديدة، أي أن المؤثرات الشرقية ضُمت إلى المؤثرات الإغريقية الرومانية، فنشأ عن تمازجها جميعها الفن الجديد الخاص المسمى بالفن البيزنطي.
شكل 7 - 5: قطعة حلي فضية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ثم استولى البرابرةُ على الغرب، واستفادوا من عناصر الحضارة اللاتينية، ولكنهم حولوا ما استعاروه منها إلى ما يلائم احتياجاتهم ومعتقداتهم، فنشأ عن الطراز اللاتيني المشبع من المؤثرات البيزنطية والجرمانية ما عُرِف في الغرب باسم الطراز الروماني الذي تحول بالتدريج إلى طراز القرون الوسطى القوطيِّ.
ثم جاء القرن الخامس عشر، وتحولت فيه الأفكار والمشاعر بفضل ما تم فيه من الرقي والغنى والثقافة فتحول الفن أيضًا، أي رُجِع إلى الطراز الإغريقي اللاتيني القديم مع مراعاة مقتضيات البيئة الجديدة، فظهر طِراز عصر النهضة، ثم استمر الفن على التطور فصار جليلًا رزينًا أيام لويس الرابع عشر، ثم بدا عليه التكلف في عهد لويس الخامس عشر، ثم أصبح مبتذلاً مشبعاً من روح المساواة في الوقت الحاضر.
وظهر من الأدوار الكبيرة التي تتابعت على فن العمارة منذ القرون القديمة حتى الوقت الحاضر تأثيرُ الماضي، وهل يقال: إن تلك الأدوار عاطلة من فن مبتكر؟ لم يقل
بهذا أحد، ولذا يجب ألا يقال: إن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر؛ لأنهم اقتبسوا عناصر فنهم الأولى من الأمم التي ظهرت قبلهم.
شكل 7 - 6: إسكملة عربية مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وتتجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظفرت به من عناصر الفن، وجعله ملائماً لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فناً جديداً، فإذا تحقق هذا لدينا علمنا أن العرب لم تسبقهم أمة.
وظهرت قوة العرب الإبداعية منذ أقاموا مبانيهم الأولى كجامع قرطبة الذي أملوا دقائق صنعته على ما استخدموا في بنائه من متفنني الأجانب.
ومن ذلك أن أعمدة المعابد القديمة التي أخذها العرب في قرطبة كانت قصيرةً غير صالحة؛ ليقوم عليها سقف عالٍ كسقف ذلك الجامع، وأنهم وضعوا بعضها فوق
بعض ساترين عدم صلاحها بتلك الحنايا الدالة على مهارتهم الفائقة، فلو كان الترك في محل العرب ما عَنَّ مثلُ هذا الرأي لأدمغتهم الغليظة.
شكل 7 - 7: القسم الأعلى لإسكملة مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة في القرن الثالث عشر
(وقد عرضت هذه الإسكملة في أول هذا الكتاب، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في القاهرة).
وما على القارئ إلا أن يتصفح صور هذا الكتاب؛ ليعلم قيمة آثار العرب الفنية العظيمة وقوةَ الإبداع فيها، وقد استوقفت هذه الآثار أنظار جميع وارثي العرب، ولم يفعل الشرق منذ ظهور العرب على مسرح العالم غير تقليدها كما قلَّد الغرب الأغارقة والرومان منذ قرون حتى الزمن الحاضر.
والحق أن وارثي العرب قَلدوا العرب، ومن خلال هذا التقليد نستطيع أن نتبين الفرق بين الفن المبتَكر والفن غير المبتَكر.
كان أمام الأمم التي حَلت محل العرب عناصر بيزنطية وعربية وهندوسية وفارسية
…
إلخ، مختلفة باختلاف البلدان، فلم تفعل سوى تنضيدها عاجزةً عن استنباط طراز جديد من مجموعها، فإذا نظرت إلى إحدى بنايات المغول في الهند، مثلاً، أمكنك أن تقول: إن هذا الجزء منها فارسي، وإن ذاك الجزء منها هندوسي، وإن ذلك الجزء منها عربي، وقلْ مثل هذا عن المباني التي أقامها الترك الذين نَضَّدوا فيها عناصر الفنون السابقة من غير أن يمزجوا بعضها ببعض، ولكنك إذا أنعمت النظر في المباني
العربية كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج ما يتعذر معه من الانتباه إلى المصادر التي اشتُقَّت منها.
والآن نلمس مزاج الأمة الإبداعي فنقول: مهما تكن عناصر الفن التي تصبح قبضتها تضع طابعها الخاص عليها، فإذا كانت الأمة مبدِعة أمكن أن تتجلى قوتها الإبداعية في كل شيء حتى في بناء إصطبل أو صنع حذاء، وإذا كانت الأمة عاطلة من مثل هذه القوة لم تَفْعَل سوى تنضيد عناصر الفن، كما هو شأن الترك الذين استطاعوا أن يقلدوا كنيسة أياصوفية في القسطنطينة عشر مرات، وأن يُنضِّدوا فيما قلدوه بعض الزخارف العربية أو الفارسية، ولكن من غير أن تكون لهم فيه أيةُ مسحة إبداعٍ فني خاصة.
شكل 7 - 8: باب عربي قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).