المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(1) مصدر نظم العرب - حضارة العرب - غوستاف لوبون

[غوستاف لوبون]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المترجم

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولالبيئة والعرق

- ‌الفصل الأولجزيرة العرب

- ‌(1) جغرافية جزيرة العرب:

- ‌(2) إنتاج جزيرة العرب:

- ‌(3) أقسام جزيرة العرب:

- ‌(3 - 1) بلاد الحجر العربية (بطرا):

- ‌(3 - 2) بلاد نجد:

- ‌(3 - 3) بلاد الحجاز:

- ‌(3 - 4) بلاد عسير

- ‌(3 - 5) بلاد اليمن

- ‌(3 - 6) بلاد حضرموت ومهرة وعمان والأحساء

- ‌الفصل الثانيالعرب

- ‌(1) مبدأ العرق كما أقرته العلوم الحديثة

- ‌(2) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق

- ‌(3) منشأ العرب

- ‌(4) تنوع شعوب العرب

- ‌(5) وصف الفوارق بين العرب

- ‌(5 - 1) عرب جزيرة العرب

- ‌(5 - 2) عرب سورية

- ‌(5 - 3) عرب مصر

- ‌(5 - 4) عرب إفريقية

- ‌(5 - 5) عرب إسبانية

- ‌(5 - 6) عرب الصين

- ‌الفصل الثالثالعرب قبل ظهور محمد

- ‌(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد

- ‌(2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد

- ‌(3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد

- ‌(4) أديان جزيرة العرب القديمة

- ‌الباب الثانيمصادر قوة العرب

- ‌الفصل الأولمحمد: نشوء الدولة العربية

- ‌(1) فُتُؤَّة محمد

- ‌(2) رسالة محمد

- ‌(3) محمد بعد الهجرة

- ‌(4) حياة محمد وأخلاقه

- ‌الفصل الثانيالقرآن

- ‌(1) خلاصة القرآن

- ‌(2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم

- ‌الفصل الثالثفتوح العرب

- ‌(1) حال العالم في زمن محمد

- ‌(2) طبيعة فتوح العرب

- ‌(3) خلفاء محمد الأولون

- ‌(4) خلاصة تاريخ العرب

- ‌القرن الثالث من الهجرة:

- ‌القرن الرابع من الهجرة:

- ‌القرن الخامس من الهجرة:

- ‌القرن السادس من الهجرة:

- ‌‌‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌القرن السابع من الهجرة:

- ‌الباب الثالثدولة العرب

- ‌الفصل الأولالعرب في سورية

- ‌(1) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب

- ‌(2) استقرار العرب بسورية

- ‌(3) حضارة سورية أيام سلطان العرب

- ‌(4) المباني التي تركها العرب في سورية

- ‌(4 - 1) جامع عمر

- ‌(4 - 2) المسجد الأقصى

- ‌(4 - 3) المباني العربية الأخرى في القدس

- ‌(4 - 4) برج الرملة العربي

- ‌(4 - 5) مباني العرب في دمشق

- ‌الفصل الثانيالعرب في بغداد

- ‌(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد

- ‌الفصل الثالثالعرب في بلاد فارس والهند

- ‌(1) العرب في بلاد فارس

- ‌(2) العرب في بلاد الهند

- ‌(2 - 1) منارة قطب

- ‌(2 - 2) باب علاء الدين

- ‌(2 - 3) مزار ألتمش

- ‌(2 - 4) معبد بندرابن

- ‌(2 - 5) مزار أكبر في سكندرا

- ‌(2 - 6) تاج محل في أغرا

- ‌(2 - 7) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا

- ‌(2 - 8) المسجد الكبير في دهلي

- ‌(2 - 9) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)

- ‌الفصل الرابعالعرب في مصر

- ‌(1) حال مصر حين الفتح العربي

- ‌واسمع جواب عمرو بن العاص:

- ‌(2) استيلاء العرب على مصر

- ‌(3) حضارة العرب في مصر

- ‌(4) مباني العرب في مصر

- ‌(4 - 1) جامع عمرو بن العاص (21 هـ/642 م)

- ‌(4 - 2) جامع ابن طولون (243 هـ/876 م)

- ‌(4 - 3) الجامع الأزهر (359 هـ/970 م)

- ‌(4 - 4) جامع قلاوون (683 هـ/ 1283 م)

- ‌(4 - 5) جامع السلطان حسن (757 هـ/1356 م)

- ‌(4 - 6) جامع برقوق (784 هـ/1384 م)

- ‌(4 - 7) جامع المؤيد (818 هـ/1415 م)

- ‌(4 - 8) جامع قايتباي (872 هـ/ 1468 م)

- ‌(4 - 9) المساجد التركية في القاهرة

- ‌(4 - 10) الآثار العربية الأخرى في القاهرة

- ‌الفصل الخامسالعرب في إفريقية الشمالية

- ‌(1) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي

- ‌(2) استقرار العرب بإفريقية

- ‌(3) مباني العرب في شمال إفريقية

- ‌(3 - 1) جامع القيروان

- ‌(3 - 2) مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان

- ‌(3 - 3) مساجد الجزائر

- ‌(3 - 4) مساجد مراكش

- ‌الفصل السادسالعرب في إسبانية

- ‌(1) إسبانية قبل العرب

- ‌(2) استقرار العرب بإسبانية

- ‌(3) حضارة العرب في إسبانية

- ‌(4) مباني العرب في إسبانية

- ‌(4 - 1) المباني العربية في قرطبة

- ‌(4 - 2) المباني العربية في طليطلة

- ‌(4 - 3) المباني العربية في إشبيلية

- ‌(4 - 4) المباني العربية في غرناطة

- ‌الفصل السابعالعرب في صقلية وإيطالية وفرنسة

- ‌(1) العرب في صقلية وإيطالية

- ‌(2) حضارة العرب في صقلية

- ‌(3) غزو العرب لفرنسة

- ‌الفصل الثامناصطراع النصرانية والإسلامالحروب الصليبية

- ‌(1) منشأ الحروب الصليبية

- ‌(2) خلاصة الحروب الصليبية

- ‌(3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق

- ‌الباب الرابعطبائع العرب ونظمهم

- ‌الفصل الأولأهل البدو وأهل الأرياف من العرب

- ‌(1) تمثل حياة قدماء العرب

- ‌(2) حياة أهل البدو من العرب

- ‌(3) حياة أهل الأرياف من العرب

- ‌(3 - 1) الحياة الاجتماعية

- ‌(3 - 2) المساكن

- ‌(3 - 3) الطعام

- ‌(3 - 4) الأزياء

- ‌الفصل الثانيعرب المدن: طبائعهم وعاداتهم

- ‌(1) المجتمع العربي

- ‌(2) المدن العربية، البيوت، الأسواق…إلخ

- ‌(2 - 1) المدن العربية

- ‌(2 - 2) المساكن

- ‌(2 - 3) الأسواق

- ‌(3) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن

- ‌(3 - 1) الولادة والختان

- ‌(3 - 2) الزواج

- ‌(3 - 3) المآتم

- ‌(4) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش)

- ‌(4 - 1) الحمَّامات

- ‌(4 - 2) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش

- ‌(5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون…إلخ

- ‌الفصل الثالثنظُم العرب السياسية والاجتماعية

- ‌(1) مصدر نظم العرب

- ‌(2) نُظُم العرب الاجتماعية

- ‌(3) نظم العرب السياسية

- ‌الفصل الرابعالمرأة في الشرق

- ‌(1) أسباب تعدد الزوجات في الشرق

- ‌(2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

- ‌(3) الزواج عند العرب

- ‌(4) الحريم في الشرق

- ‌الفصل الخامسالدينُ والأخلاق

- ‌(1) تأثير الدين في المسلمين

- ‌(2) الطقوس الدينية في الإسلام

- ‌(2 - 1) الفِرَق الإسلامية

- ‌(2 - 2) المباني الدينية

- ‌(3) الأخلاق في الإسلام

- ‌الباب الخامسحضارة العرب

- ‌الفصل الأولمصادر معارف العرب: تعليمهمومناهجهم

- ‌(1) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية

- ‌(2) مناهج العرب العلمية

- ‌الفصل الثانياللغة والفلسفة والآداب والتاريخ

- ‌(1) اللغة العربية

- ‌(2) فلسفة العرب

- ‌(3) الأدبُ العربيُّ

- ‌(3 - 1) الشعر عند العرب

- ‌(3 - 2) الروايات والأقاصيص

- ‌(3 - 3) الحكايات والأمثال

- ‌(3 - 4) التاريخ

- ‌(3 - 5) البيان والبلاغة

- ‌الفصل الثالثالرياضيات وعلم الفلك

- ‌(1) الرياضيات

- ‌(2) علم الفلك عند العرب

- ‌الفصل الرابعالعلوم الجغرافية

- ‌(1) ريادات العرب الجغرافية

- ‌(2) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية

- ‌الفصل الخامسالفيزياء وتطبيقاتها

- ‌(1) الفيزياء والميكانيكا

- ‌(2) الكيمياء

- ‌(3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات

- ‌(3 - 1) (المعارف الصناعية)

- ‌بارود الحرب والأسلحة النارية

- ‌الوِراقة

- ‌استخدام البوصلة في الملاحة

- ‌الفصل السادسالعلوم الطبيعية والطِّبية

- ‌(1) العلوم الطبيعية

- ‌(2) العلوم الطبية

- ‌(2 - 1) آثار العرب الطبية

- ‌علم الصحة عند العرب

- ‌تقدُّم العرب في الطب

- ‌الفصل السابعالفنون العربيةالرسم والحفر والفنون الصناعية

- ‌(1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار

- ‌(2) مصادر الفنون العربية:

- ‌(3) الجمال في فنون العرب:

- ‌(4) الفنون الصناعية العربية:

- ‌(4 - 1) التصوير:

- ‌(4 - 2) صنع التماثيل:

- ‌(4 - 3) صناعة المعادن والحجارة الثمينة:

- ‌(4 - 4) النقود والأوسمة:

- ‌(4 - 5) المصنوعات الخشبية:

- ‌(4 - 6) الفسيفساء:

- ‌(4 - 7) صناعة الزجاج:

- ‌(4 - 8) الصناعة الخزفية:

- ‌(4 - 9) المنسوجات والبسط والزرابي:

- ‌الفصل الثامنفن عمارة العرب

- ‌(1) معرفتنا الحاضرة لفن عمارة العرب

- ‌(2) عناصر فن عمارة العرب المميزة:

- ‌(3) المقابلة بين مباني العرب الفنية:

- ‌(3 - 1) مباني بلاد سورية:

- ‌(3 - 2) مباني بلاد مصر:

- ‌(3 - 3) مباني بلاد إفريقية الشمالية:

- ‌(3 - 4) مباني بلاد صقلية:

- ‌(3 - 5) مباني بلاد الأندلس:

- ‌(3 - 6) مباني بلاد الهند:

- ‌(3 - 7) مباني بلاد فارس:

- ‌ ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة:

- ‌(أ) الطراز العربي قبل ظهور محمد:

- ‌(ب) الطراز البيزنطي العربي:

- ‌(ج) الطراز العربي الخالص:

- ‌(د) الطراز العربي المختلط:

- ‌الفصل التاسعتجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم

- ‌(1) صلات العرب بالهند:

- ‌(2) صلات العرب بالصين:

- ‌(3) صلات العرب بإفريقية:

- ‌الفصل العاشرتمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب

- ‌(1) تأثير العرب في الشرق:

- ‌(2) تأثير العرب في الغرب:

- ‌(2 - 1) تأثير العرب العلمي والأدبي:

- ‌(2 - 2) تأثير العربي في فن العمارة

- ‌(2 - 3) تأثير العرب في الطبائع:

- ‌الباب السادسانحطاط حضارة العرب

- ‌الفصل الأولورثة العربتأثير الأوربيين في الشرق

- ‌(1) ورثة العرب في الأندلس:

- ‌(2) ورثة العرب في مصر والشرق:

- ‌(3) ورثة العرب في الهند:

- ‌(4) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم

- ‌الفصل الثانيأسباب عظمة العرب وانحطاطهمحالُ الإسلام الحاضرة

- ‌(1) أسباب عظمة العرب

- ‌(2) أسباب انحطاط العرب

- ‌(3) مقام العرب في التاريخ:

- ‌(4) حال الإسلام الحاضرة:

الفصل: ‌(1) مصدر نظم العرب

‌الفصل الثالث

نظُم العرب السياسية والاجتماعية

(1) مصدر نظم العرب

تختلف النُّظُم السياسية والاجتماعية، لأكثر الأمم التي يُعْنَى بها التاريخ، اختلافاً عظيماً بين أمة وأخرى، ويدل إنعام النظر على أن قيمة تلك النظم أمرٌ نسبيٌّ، فما صلح منها لأمة لا يصلح لأمة أخرى في الغالب.

وتحتاج تلك الحقيقة إلى برهان، ولا تُسِلِّم بها النفس حالاً، ويظهر العكس من الحقائق أول وهلة، أي أنه يُرَى وجوبُ اتخاذ النُّظم التي عُزِيت إليها عظمة إحدى الأمم مثالاً للاقتداء، وأن من الحكمة انتحالها وحملَ الناس عليها طوعاً أو كرهاً، وهذا ما اعتقده أقطاب السياسة والمؤرخون زمناً طويلاً، ولا يزال أكثرهم يراه.

واليوم فقط بدأنا نَعْلَم خطر ذلك الرأي، فقد أثبت البحث العميق في حياة الأمم، أن نُظُم الأمم عُنوان مشاعرها واحتياجاتها الموروثة التي هي وليدة ماضٍ طويل، وأنها لا تتبدل كما يشاء الإنسان، حقاً رَوَى المؤرخون وجود مشترعين، كموسى وليكورغ وسولون ونوما وغيرهم، فَرَضوا على أممهم شرائع ابتدعوها، ولكن الواقع غير ذلك، فلم يكن لمشترع مثلُ تلك القدرة التي لم تتفق لأقوى الفاتحين وأعنف الثورات إلا لوقت قصير، فإذا أكُرِهت أمة على قبول نظم تختلف عن نُظُمها كان ذلك من قبيل إرغام حيوان على تبديل وضعه الطبيعي حيناً من الزمن، وإذا ما زال عامل القهر عاد الماضي

إلى مجراه، وظهر أن الأمر لم يَعْدُ حدَّ تغيير بعض الكلمات.

وهنالك حوادث تاريخية كثيرة تظهر في بدء الأمر مناقضة لما تقدم، فيجب درسها درساً حقيقياً؛ لِيُرى زوالُ هذا التناقض، خذ العرب مثلاً تَرَهم قد فرضوا نُظُمهم على أمم مختلفة، ولكنك إذا ما بحثت في أمم آسية وإفريقية التي سارت على سُنَّة العرب

ص: 393

علمتَ أن النظم السابقة لأكثر هذه الأمم لا تختلف عن نُظُم العرب إلا قليلاً، وأنه إذا كان بينها وبين نُظُم العرب اختلاف في الأمور الجوهرية، كنظم البربر مثلاً، بدا لك ضعف أثر القرآن فيها، والعربُ، وهم أعقل من كثير من أقطاب السياسة المعاصرين، كانوا يعلمون جيداً أن النظم الواحدة لا تلائم جميع الشعوب، فكان من سياستهم أن يتركوا الأمم المغلوبة حرةً في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها.

ولا تتبدل النظم، وهي عنوان احتياجات الأمة ومشاعرها التي نبتت فيها، إلا بِتَبَدُّل تلك الاحتياجات والمشاعر، وقد أثبت التاريخ أنها لا تتحول إلا بتعاقب الوراثة، ومن ثَمَّ ببطء عظيم، وقد اقتضى تحول البرابرة الذين قَضَوا على العالم الروماني إلى ما صاروا إليه في دور النهضة مرورَ القرون الوسطى التي دامت ألف سنة.

وتسيطر سُنَن تطور ذوات الحياة على تطور النظم الاجتماعية، وقد اكتسب، بتعاقب الأزمنة، بعضُ ذوات الحياة، التي كانت تعيش في البحر في الأدوار الجيولوجية، من الأعضاء ما تَمَكَّن به من العَيش في الهواء، وليس بعيداً الزمنُ الذي كان علماء الطبيعة يجهلون فيه تطور ذوات الحياة والحَلَقات التي تصل بين طرفيها، وليس بعيداً الزمن الذي كان علماء الطبيعة يعتقدون فيه أن قُدرة عُلْوِيَّة خَلَقت ذواتِ الحياة في أوقات مختلفة، فلما تقدم العلم أثبت أن هذه التحولات العظيمة لم تَحدث فجأةً، بل هي وليدة تطورات غير محسوسة اكتسبها كل جيل، وتراكمت بالوراثة في عدة قرون، وأسفرت عن تحولات عظيمة جداً.

ونَعُدُّ العِرق والبيئة وطرق المعايش والعوامل المختلفة، التي نرى الضرورة أوَّلَها وعزيمةَ الرجال أضعفها، أسباباً رئيسةً في نشوء النظم، والزمن وحده هو القادر على توطيدها، وإذا رأينا أمةً ذاتَ نُظُم واحدة منذ زمن طويل أيقنا بأن هذه النظم خير ما يلائمها، وإذا كانت الحرية أمراً طيباً لدى بعض الشعوب كانت صَرامة وليِّ الأمر المطلق أفضلَ للشعوب الأخرى، ولذا فإن من قِصَرِ النظر أن نَقِف عند حدِّ ثَقافتنا الاجتماعية التقليدية الخطرة، وأن نرى من الممكن تطبيقَ نُظُمٍ لاءَمت أمةً بتعاقب الأزمان على أمةٍ أخرى، وهذا لا يختلف كثيرًا عن محاولة حمل السمك على التنفس في الهواء بحجة أن

جميع الحيوانات العليا تتنفس في الهواء، فالسمك يموت حيث تحيا ذوات الثُّدِي.

وما تنشأ به نظم الأمم، وما تتحول به، من البطء العظيم يجعلنا لا نُبْصِر التحولات، على العموم، إلا إذا جَهَر بها مشترع عظيم، فنعزو إلى هذا المشترع وضع القوانين مع أنها وليدة ماضٍ طويل، وليس شأنُ المشترعين الحقيقي سوى إثباتهم، بما لهم من سلطان،

ص: 394

عاداتٍ مستقرةً بالأذهان بعض الاستقرار، وإلغائهم العاداتِ غيرَ الصالحة أو الضارةَ التي لولاهم لدام أمرها مدة أخرى، أجل، إن تأثير المشترعين مهم، ولكن هذا التأثير لا يكون إلا إذا كانت التحولات التي هي وليدة استنباطهم ضئيلةً إلى الغاية، وهنالك يمكنهم أن يُرَدِّدوا قول سولون:«إنني لم أمنح أهل أثينة أفضل ما يتصور الإنسان من القوانين، بل مَنَحْتُهم أفضل القوانين التي يطيقونها» ، فسولون لم يَخْتَر القوانين التي جاء بها في الحقيقة من غير العادات السابقة التي رَسَخَت في أذهان القوم ومعتقداتهم.

شكل 3 - 1: داخل حوش في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

ومثل ذلك شأن مُحَمَّد الذي عَرَف كيف يختار من نظم العرب القديمة ما كان يبدو أقومَها، فَدَعَمها بنفوذه الديني العظيم، ولكن شريعة مُحَمَّد لم تَنْسَخ جميع العادات التي قامت مقامها كما أن قانون الألواح الاثنيْ عشر لم يقضِ على قوانين الرومان القديمة، ومحمدٌ، حين رأى أن يُحرِّم بعض العادات القديمة كالوَأْدِ، لم يفعل غير ما يلائم المشاعر المنتشرة بدرجة الكفاية وما تُقِرُّه هذه المشاعر.

وشريعة مُحَمَّد، في فصولها غيرِ الدينية، هي خلاصة عادات قديمة إذن، وهي، كالشرائع الأخرى، تكشِف بسهولة عن الحالة الاجتماعية للأمة التي ظهرت فيها، ولا

ص: 395

كتابَ تاريخٍ يعدل دراسة قوانين إحدى الأمم في بعض الأحيان، فالقوانين تدل، بما تُبْصر من الاحتياجات، وبما تأمر به وما تنهى عنه، على أحوال المجتمع الذي نشأت فيه كما نُبيِّن ذلك غير مرة.

شكل 3 - 2: كوب عربي قديم من البلور (من تصوير إيبِر).

وليس من الضروري أن يُعتَمَد على شريعة إحدى الأمم وحدها في استجلاء حالتها الاجتماعية إذا كان لهذه الأمة آثارٌ أخرى في التاريخ، وهي إذا كانت ذات حضارةٍ وأَنسالٍ كان أسهل على الباحث أن يدرس بقايا تلك الحضارة والأنَسَال للوقوف على حالتها الاجتماعية كما صنعنا ذلك في الفصول السابقة، ونحن حين وصفنا حياة العرب ورجعنا إلى الأزمنة التي نشأت فيها نُظُمهم أَعْدَدْنَا القارئ، بما فيه الكفاية، ليتمثَّل النظم التي ندرسها الآن، وليُدرِك تأثير المشترعين الضئيل في تكوينها.

ومن الضروري أن يُبْحَث على هذا النمط في شؤون الأمم التي يُراد وصفها واكتناهُ نظامها الاجتماعي عرباً كانت هذه الأمم أو غيرهم، ونرجو أن يَحِلَّ الوقت الذي يُدرك الفقهاء فيه أهمية هذا، فيصبح علمُ الحقوق غير قائم على سَرْد موادِّ القوانين المُعَقَّدَة والمناقشات البيزنطية.

ص: 396