الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان في القرون الوسطى، ولو قيض لمحاكم التفتيش أن تعود اليوم إلى إسبانية لرأت جميع طبقات الشعب الإسباني ظهيراً لها، والحكم العادل الشديد الذي أصدره المؤرخ الإنكليزي الكير بكل منذ بضع سنين على إسبانية يسري على حاضرها، وعلى زمن طويل من مستقبلها لا ريب، قال بكل:
لا تزال إسبانية نائمةً هادئةً فاقدة للحس غير شاعرةٍ بكل ما يجري في بقية العالم، أي معدودة غير موجودة، وإسبانية هنالك، حيث أقصى نقطة في القارة لم تكن، وهي جامدة ضخمة الجرم، ممثلةً لغير مشاعر القرون الوسطى وأفكارها، ومما يحزن فهيا كثيرًا اقتناعها بحالها، واعتقادها أنها أرقى أمم أوربة، مع أنها أكثرها تأخراً، هي فخور بكل ماي جب أن يحمر وجهها منه خجلاً، فخور بقدم آرائها، فخورٌ بتدينها، فخور بقوة إيمانها، فخور بسرعة تصديقها الطائش الذي لا حد له، فخور برفضها لإصلاح معتقداتها وعاداتها، فخور بحقدها على الملحدين، فخور بيقظتها الدائمة في إبطال كل ما يعملونه، ليستقروا بأرضها استقراراً شرعياً، ومن مجموع هذه المور تتألف تلك الخلاصة الكئيبة التي تسمى إسبانية.
(2) ورثة العرب في مصر والشرق:
الترك هم ورثة العرب في مصر وقسمٍ كبير من الشرق كما هو معلوم.
وإذا ما نظر المرء إلى الترك من الناحية السياسية، أدرك أنه كان لهم دورٌ كبيرٌ من الهضمة، فقد ارتعدت فرائص أقوى ملوك أوربة، زمناً طويلاً، فرقاً من سلاطينهم الذين قاموا مقام القياصرة، وأحلوا الهلال محل الصليب الإغريقي فوق أيا صوفية، وبسطوا نفوذ الإسلام في الآفاق.
بيد أن عظمة الترك لم تكن في غير الحرب، فالترك، وإن استطاعوا أن يؤسسوا دولةً كبيرة، أثبتوا عجزهم عن إبداع حضارة في كل زمن، وكان أقصى جهودهم أن يستفيدوا مما أصبح تحت أيديهم من علوم العرب وفنونهم وصناعاتهم وتجارتهم، ولم يقدر الترك أن يتقدموا خطوةً واحدة في هذه المعارف التي ازدهرت أيام سلطان العرب، والأمم، إذ كانت ترجع إلى الوراء، حتماً، إذا لم تتقدم، لم تلبث ساعة انحطاط الترك أن دقت.
وترجِع نهاية تاريخ حضارة العرب في الشرق إلى اليوم الذي صارت مقادير دولتهم قبضة الترك بالقوة، أجَل، ما فَتِئ العرب يَحيَون في التاريخ بنفوذهم الديني، ولكن الشعوب التي خَلَفَتهم لم تستطع أن تُمسِك مستوى الحضارة الذي بلغوه. وكان الانحطاط عميقاً في مصر على الخصوص، وبدأ هذا الانحطاط عندما جعلت انتصارات السلطان سليم منها ولايةً من الدولة العثمانية، فقد أخذت الفنون والعلوم والصناعات تنطفئ فيها شيئاً فشيئاً.
وكان يدير مصر في العهد العثماني ولاةٌ مُتَقلِّبُون غيرُ مفكرين في غير الاغتناء بسرعة، ولم تلبث مصر أن وَقَعَت في ضنك العيش كبقية الولايات العثمانية التابعة للآستانة، وزال رَوْنَقَها القديم عنها، وصارت لا تقام فيها عمارةٌ جديدة، وأضحت مبانيها القديمة مهملةً، ولم يبقَ منها غيرُ ما سَمَح به الدهر.
شكل 1 - 3: درقة قديمة لأحد ملوك غرناطة (من صورة فوتوغرافية).
ولا أحد يجهل ما آلت إليه الولايات العثمانية في الوقت الحاضر، ومن العبث أن نفيض في بيان أمرها، وإنما نقول، ملخصين لما قدرت به بإنصاف: إنها ليست خيراً
من أية بلاد عاطلة من الإدارة، فطرقها مهملة، ومناجمها وغاباتها وثروتها الزراعية معطلة، وقطع السبل فيها من الأمور الشاملة لأبواب مدنها الكبيرة كإزمير مثلاً، ولا تخلو بحارها، ومنها بحر مرمرة والبسفور، من القراصنة.
ولا يستنتج القارئ مما تقدم أن أهل تركية أحط من سكان أوربة، فتركية تشتمل، بالحقيقة، على ذلك التضاد الغريب الذي أَعْجَبُ من أنني لم أره في مكان آخر، أي أنها ذات سكان لهم صفاتٌ من الطراز الأول مع أن طبقاتها القائدةَ أدنى من هؤلاء السكان بمراحل خلافًا لما في الغرب، وأن فلاحي الترك وعمالهم زهادٌ صابرون على الأعمال أوفياء لأسُرهم، ذوو نشاط محتملون لجور حكومةٍ فاسدة احتمالاً فلسفياً، ويرجح الجندي التركي الموت في مكانه على الهزيمة، وهو لا يَقْبض راتباً، وهو لا يلبس سوى الثياب الرثة، ويتألف طعامه من الخبز والماء، وقد قال لي أحد القادة الحربيين، الذين رأوا جنود الترك عن كثب: إنك لا تجد في أوربة جيشًا يستطيع العيش يومًا واحدًا في مثل تلك الأحوال، وقد يكون التركُ خيرَ جنود أوربة مع أنهم أسوأ الجنود قيادةً.
وينطبق هذا القول على الترك حصرًا، لا على جميع سكان الولايات الآسيوية التي يحكم فيها الترك، وذلك أنه يرى، في الغالب، في مدن تلك الولايات، على الخصوص، مزيج فاسد من مختلف العروق يعد حثالة من جميع الفاتحين الذين جاسوا خلالها منذ قرون كثيرة فزاده النظام العثماني فسادًا، ولا ننكر وجود بعض المزايا في هذا المزيج الفاسد، ولكن مع القول بانحطاط مستواه الخلقي وشجاعته.
واليوم، لا ترى في هذا الشرق الفاسد سوى سلطانٍ أجمع الناس على احترامه، وقد سمعت اسمه يرن في كل مكان يقع بين سواحل مراكش وصحراء جزيرة العرب، وبين شواطئ البسفور ورمال أثيوبية، في الآستانة تحت قبة أيا صوفية، وفي القدس على ذروة التل التي كان قائمًا عليها هيكل سليمان، وتحت قباب كنيسة القبر المقدس (القيامة) الدكن، وفي مصر من الأهرام إلى خرائب طيبة ذات مائة الباب، وفي كل زاويةٍ يأوي إليها السائح، ذلك الاسم الذي يرن راجيًا متوسلا هالكًا مبعوثًا بلا انقطاع إلى أن يغشى عليه بين جلبة سخرية أو عويلٍ، ذلك الاسمَ الذي ينطق به بلهجة الوعد أو الوعيد مع إمكان رنينه كالأمل، ذلك الاسم الذي يبدو تميمةً قادرة تغني عن الخطب الطويلة، ويصبح الإنسان بها سيدًا في الشرق، ذلك الاسم الذي يكفي ترديده على وجه ما لتنفرج أسرة الوجوه ويسجدَ الندماء ولتفتر ثغور النساء عن ابتساماتٍ تأخذ بمجامع القلوب، ذلك الاسم الساحر الذي يسهل أن ينال به ما لا يَقدر أمير المؤمنين على منحه، والذي