الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديثة التي ضَرَّجت مصر بالدماء، وقد تَجَلَّت لي صعوبة إدراك الناس لروح الأمم الأخرى من مطالعة الصحف الأوربية التي ذَكَرت أن ثورة عرب مصر الأخيرة حدثت لينالوا من الحقوق السياسية ما يجهلونه بالحقيقة جهلاً تاماً، وذلك أن العرب إذ تعودوا الإذعان لأهواء ربٍّ، ولم يَصْعَب عليهم الإذعان لوكلائه، وأن الرجل الذي يخاطب العرب باسم لله يُطاع لا محالة، ما عَلِموا أنه يتكلم باسم لله حقاً، فعلى الراصد المؤمن أو الملحد أن يحترم هذا الإيمان العميق الذي استطاع العربُ أن يفتحوا العالم به فيما مضى، وهم اليوم يَصبِرون به على قَسوَة المصير.
حقاً إن مثل تلك المعتقدات يُورِثُ الجموع أوهاماً جميلةً تُعدُّ عنوان السعادة، والجموع تُبصِر من خلالها نعيم الآخرة الذي لا تَرَى مثله في هذه الحياة الدنيا، وهي تصونها من الوقوع في اليأس وما يَجُرُّ إليه اليأس من الفِتن الشديدة، ويجب على من يستخف بتلك الأوهام أن يستخف بجميع الأوهام؛ ليكون منطقياً فيزدري المجد والطموح والحب وجميعَ الخيالات الساحرة الجديرة بالاحترام التي نقضي حياتنا وراء تحقيقها، وهذه الأوهامُ أعظم عامل في سَيْر الإنسان حتى الآن، والمفكر الذي يكتشف ما يُغْني الناسَ عنها لم يُولَد بعد.
(2) الطقوس الدينية في الإسلام
(2 - 1) الفِرَق الإسلامية
أرى أن أقول بضع كلماتٍ عن الفِرَق الإسلامية قبل وصف طقوس العرب الدينية الأساسية: يشتمل الإسلام على عدة فِرَق ككل دين، وبلغ عدد الفِرَق الإسلامية، منذ أوائل التاريخ الهجري، اثنتين وسبعين فِرقةً، وأكثر من هذا عدد الفِرق البروتستانية وحدها.
وفرقة أهل السنة وفرقة الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وأهمها، فأما الشيعة: فيزعمون أن الخلافة لصهر النبي عليِّ، ويحترمون علياً كاحترامهم لمحمد تقريباً، وأما أهل السنة: فيَرَون خِلافة الخلفاء صحيحةً وَفق ترتيبهم، ويمثِّلُ أهل السنة الفريق الصحيح.
وإذا ما استثنينا تينك الفِرقتين رأينا فِرَقاً ثانوية في الإسلام، وأهمُّها الوهابية التي ظهرت منذ قرن فأقامت دولةً قوية في وسط جزيرة العرب، وتزعم الوهابية أنها تُعيد إلى الإسلام صفاءه القديم، والوهابيون بروتستان الإسلام في الحقيقة.
شكل 5 - 1: محراب في الجامع الأزهر بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
والفُرْس من الشيعة، والعرب والترك من أهل السنة، وأهل نجد من الوهابيين.
وينظر بعض تلك الفرق إلى بعض بعين التسامح، وتصلح الفرق في سورية ــ على الخصوص ــ أن تكون قُدوَةً لمختلف الفِرق النصرانية، وأنت لا تجد في العالم الإسلامي محاكم مثل محاكم التفتيش ألُّفت لحمل أنصار فرقةٍ على انتحال مبادئ فرقة أخرى بالحديد والنار، وأنت تجد أساتذة منتسبين إلى مختلف المذاهب يعيش بعضُهم بجانب بعض متفاهمين في الجامع الأزهر الذي هو أهم موئلٍ للتعليم الديني في الشرق.
ولنذكر الآن طقوس العرب الدينية المهمة:
الصلاة: الصلاة من أهم العبادات التي نصَّت عليها شريعة مُحَمَّد. المسلم لا يَفِرُّ من أدائها مهما كانت أمُّته وطبقته.
ويجب أن تؤدَّى الصلاة خمس مرات في أوقات معينة من كل يوم كما أمر النبي، ويدعو المؤذنون من المآذن، في بلاد الإسلام الواسعة، معشرَ المسلمين إلى الصلاة
شكل 5 - 2: ضريح ولي عربي في غابة البليدة المقدسة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).
بأصواتهم الجهيرة وقت الفجر ووقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء، وصيغة الأذان هي:
الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا لله، أشهد أن محمداً رسول لله، حي على الصلاة.
وإذا ما تم الأذان قام المسلمون إلى الصلاة رافعين أيديهم إلى آذانهم، ثم وضعوها تحت سُرَّاتهم تالين ما تيسَّر من القرآن، ثم ركعوا وسجدوا غير مرة.
ويُؤدِّي المسلمون صلاة الجمعة وقت الظهر في المساجد بعد أن يستمعوا إلى خُطبة الإمام، ويدوم ذلك ثلاثةَ أرباع الساعة.
وعلى المسلم أن يتوضأ قبل الصلاة، وتجد في كل مسجد حَوْضاً للوضوء.
الصوم: الصوم من أهم عبادات الإسلام أيضاً، ويصوم المسلمون على اختلاف طبقاتهم، ويراعِي المسلمون في صيامهم شروطَ الصوم الشديدة بدقة يَصعب على الأوربي أن
يتصورها، ويقوم الصوم في شهر رمضان الذي يَحِلُّ في فصولٍ مختلفةٍ مع السنين، على الامتناع عن الأكل والشرب والتدخين من الفجر إلى غروب الشمس.
ويتضمن امتناع المسلم عن الشرب والتدخين في النهار قهراً لنفسه، فإذا ما اقترب وقت الغروب رأيت المسلمَ حاملاً سيغارته أو ممسكاً أنبُوب نارجيلته منتظراً، فارغَ الصبر، إيذان المؤذن بحلول وقت الإفطار، وإذا ما غربت الشمس استدرك المسلم ما فاته، وتناول طعاماً وافراً.
شكل 5 - 3: القسم الأعلى لمزار العباسيين الذي اكتشف حديثاً في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وفي ليالي شهر رمضان تُنارُ القَهَوَات، وتُمَثَّلُ الروايات، وتشاهد الألعاب بعد الإفطار، وتُضاء المساجد.
الأعياد الدينية: أعياد المسلمين الدينية، خلا رمضان كثيرةٌ، وأذكر منها يومَ مولد النبي، وليلة نصف شعبان المرهوبة التي تُوزَن فيها مصاير الناس وتُنَظَّم، وعيد الأضحى الذي يدوم أربعة أيام من آخر أشهر السنة ويَرمُزُ إلى ضَحِيَّة إبراهيم.
وتذبح كلُّ أسرة خَروفاً أو حيواناً آخر في عيد الأضحى، ويَلبَس المسلمون أفخر الملابس، ويمشون في الأسواق، وتضاء المساجد بالمصابيح ذات الألوان، وأَعُدُّ الليلة التي نظرتُ فيها إلى ميناء رودسَ المُنارِ ليلةَ عيد الأضحى من أروع ما رأيت في حياتي.
وبلغ تأثير الإسلام في أدق شؤون العرب مبلغاً تكون معه جميع مراسمهم أعمالاً دينية، ومن تلك المراسم: أنكحتُهم وختاناتهم التي وَصَفْنَاها في فصل سابق، والتي ليست، في الحقيقة، سوى أعمال دينية ومدنية معاً.
الحج: يُعد حجُّ المسلم لمكة مرةً في العُمُر من أهم ما أَمَر به محمد من الأمور الدينية والسياسية.
شكل 5 - 4: سقف جامع المؤيد في القاهرة (من تصوير كوست).
ويَتمُّ الحج بواسطة القوافل العظيمة التي يُعَدُّ أهمها ما يخرج من القاهرة والشام، وتَكون الرحلة طويلةً، ويَهْلِك فيها حُجاجٌ كثير، وتهون المشقة في سبيل زيارة الكعبة المُشَرَّفَةِ الشهيرة أيام محمد، والتي يرجع أصلُها إلى أقدم قرون التاريخ.
وإذا ما اقترب الحجاج من مكة حَلَقوا، وخلعوا ثيابهم، وقاموا بضروب الوضوء، ولَبِسوا الأزُر، ثم طافوا حول الكعبة سبع مراتٍ، واستلموا الحجرَ الأسود الشهير الذي تكلمنا عنه في فصل آخر، ثم توجهوا إلى جبلِ عرفاتٍ القريب من مكة وسمعوا فيه خُطبةَ الإمام، ثم أفاضوا إلى حيث يَرمون الشيطانَ بحَصَيات في الوادي الذي طَرَده منه إبراهيم، ثم نَحَروا الذبائح، ثم زار أكثرهم حميةً المدينةَ التي تضمُّ قبر الرسول.
وفي الغالب يبلغ عدد الذين يزورون مكة كلَّ سنة مئتي ألف حاج، وفي موسم الحج يتقابل المسلمون الذين يجيئون من أنحاء العالم الإسلامي الممتد من مراكش إلى الهند وحدود الصين ماراً بإفريقية الوسطى.
والحقُّ أن المؤمنين إخوةٌ كما أمر القرآن، وأن الحج فُرِض لتوثيق عُرَا الإخاء الإسلامي كما ذهب إليه متكلمو العرب، فإذا ما عَقَد الحجاج اجتماعاتهم التي لا يستطيع نصراني أن يَلِج فيها من غير أن يُقتَل استقصى بعضهم احتياجات بعض، وتفاهموا في شؤون الإسلام، ثم نشروا ذلك في جميع نواحي الإسلام، ولا نرى أن نُسهب في بيان ما قد ينشأ من النتائج السياسية المهمة عن اجتماع الحجيج الذين يأتون مكةَ في موسم الحج من الأقاصي فتُوحِّد بينهم المصالح الدينية المشتركة.
شكل 5 - 5: نافذة في مسجد عربي بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولمكة أهميةٌ تجارية كبيرة إلى الغاية عدا أهميتها الدينية والسياسية، فمكة من أعظم أسواق العالم، وفيها يُتَقايَض بالسلع التي تَرِدُها من أنحاء الدنيا.
أذكار الدراويش: عَرَفَ الإسلام الزهد والذِّكر كما عرفتهما الأديان الأخرى، وأدى الزهد والذكر إلى تأليف الطرق الدينية التي تهدف إلى النجاة الأبدية، وتظهر الطرق الدينية في الأديان التي تميل إلى التشاؤم عادة، وليس القرآن أقلَّ تشاؤمًا من الإنجيل؛ فالقرآن،
كالإنجيل، يَعُدَّ الحياة الدنيا طريق ابتلاء وامتحان للوصول إلى الآخرة، وأوجب هذا مَيْلَ ذوي الوَرَع والقلق إلى التحرر من مفاسد الدنيا، ودخول ملكوت السماوات بالزهد.
وأذكر، من بين الطرق الدينية التي تَسْتَوقف النظر، طريقة الدراويش الدَّوَّارين (المَوْلَوِيَّة) وطريقة الدراويش الصَّخَّابين، ونُعِتَ هؤلاء بهذا الاسم؛ لِمَا يأتون من الأعمال والحركات التي يَصِلون بها إلى درجة الوَجد والانجذاب كما كان يصنع رهبان أديارنا كثيراً.
وفي الآستانة شاهدتُ الدراويش الدَّوَّارين في أثناء أذكارهم فرأيت حالهم، بعد أن يَدُوروا كثيراً على أنفسهم، قريبةً من حال السائرين في النوم، ويقوم الدراويش الدَّوَّارون، قبل دوَرانهم على أنغام الناي والطبل والرَّباب، ببعض التراتيل التي تشابه تراتيل كنائسنا، وإن كانت أعذب وأشجى مع عدم طنينها.
شكل 5 - 6: نافذتا مسجد في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وجَرَّبْتُ تأثير تلك الموسيقا في المؤمنين بنفسي، وسَبَحْتُ في بحر من الرُّؤَى حين سَمِعتها، قال تِيُوفيل غُوتيه موضحاً هذا التأثير في الأسطر الآتية:
كان ذلك اللحن العجيب يُثير في قلبي ما لا يُعرَف من الحنين إلى الأوطان، وكان يُثير فيه ما لا يُوصف من الولَه والجذَل، وكان يثير فيه ميلًا إلى
الانسياق مع التيار، وما أكثر ما كان يَهيج في نفسي من الذكريات والمناظر الخيالية الجميلة الساحرة! وما أكثر ما كنت أتَمَثل به ما نَسِيتُ من الصور والرسوم والمشاهد والأماني اللطيفة فأترنَّح مُسَلِّمًا أمري إلى سحره! وهو المؤثِّر الذي يناقض ما تعودناه.
شكل 5 - 7: نافذة مسجد عربي (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وإذا ما دام تأثير تلك الأنغام بعض الزمن خلع أولئك الدراويش أَرْدِيَتِهم، ولم يبقَ عليهم سوى قُمُصِهم، باسطين أَذْرُعَهم كالصليب، راقصين حول أنفسهم بانتظام، متدرجين ببطء مائلي الرؤوس، فاتحي الأفواه مُغمضي العيون فاقدي المشاعر، وما كان وَضعُ ذُرْعانهم المُتعِبُ، الذي لا يحتمله الإنسان في الأحوال العادية إلا لبضع دقائق؛ ليُزعِجهم في ربع ساعة، وما كنت لأجدَ في حركاتهم غيرَ العذوبة والانتظام الرائع، فيُخيَّل إليَّ أنني تِهت فيما لا حَدَّ له من الأخيلة التي يَعجِز عن وصف سحرها القلم، قال ذلك الكاتب: