الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شكل 10 - 11: باب الغفران في قرطبة (طراز إسباني عربي، من صورة فوتوغرافية).
(2 - 3) تأثير العرب في الطبائع:
لا نعود إلى ما فصلناه في فصل سابق عن تأثير العرب الخلقي في أوربة، وإنما نذكر أننا أثبتنا فيه الفرق العظيم بين سنيورات النصارى وأشياع النبي في ذلك الزمن، وأن النصارى تخلصوا من همجيتهم بفضل اتصالهم بالعرب، واقتباسهم منهم مبادئ فروسيتهم، وما تؤدي إليه هذه المبادئ من الالتزامات، كمراعاة النساء والشيوخ والأولاد واحترام العهود
…
إلخ، ونذكر أننا بينا في فصلنا عن الحروب الصليبية أن أوربة النصرانية كانت دون الشرق الإسلامي أخلاقًا بمراحل، فإذا كان للديانات ما يسند إليها، وما نجادل فيه، من التأثير في الطبائع على العموم أمكنت المقابلة بين الإسلام والأديان الأخرى التي تَزعُم أنها أفضل منه على الخصوص.
شكل 10 - 12: مدقة باب الغفران في قرطبة.
وقد تكلمنا في ذلك الفصل، بما فيه الكفاية، عن تأثير العرب الخلقي في أوربة، فنحيل القارئ عليه، وإنما نذكر القارئ بالنتيجة التي توصل إليها، أيضًا، العلامة المتدين مسيو بارتلمي سنت هيلر في كتابه عن القرآن حيث قال:
أسفرت تجارة العرب وتقليدهم عن تهذيب طبائع سنيوراتنا الغليظة في القرون الوسطى، وتعلم فرساننا أرق العواطف وأنبلَها وأرحمها من غير أن يفقدوا شيئًا من شجاعتهم، وأشك في أن تكون النصرانية وحدها قد أوحت إليهم بهذا مهما بولغ في كرمها.
وقد يسأل القارئ بعد ما تقدم: لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به أيضًا وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة، وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
شكل 10 - 13: باب مخزن الأمتعة المقدسة في كاتدرائية أشبيليه (طراز إسباني عربي)
شكل 10 - 14: قلادة من ذهب مصنوعة في غرناطة في القرن الرابع عشر على الطراز العربي الإسباني (متحف الآثار في مدريد، من صورة فوتوغرافية).
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصةً لماضٍ طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماةً بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم، فيلوح ما تُمليه عليهم من الآراء حراً في الظاهر فيحترم.
والحق أن أتباع محمد ظلوا أشد من عرفته أوربة من الأعداء إرهاباً عدة قرون، وأنهم، عندما كانوا لا يردعوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءاً من مزاجنا، وأضحت طبيعةً متأصلةً فينا تأصُّلَ حقد اليهود على النصارى الخفي أحياناً والعميق دائماً.
شكل 10 - 15: مصباح من زجاج مطلي بالميناء (من تصوير بريس الأفيني).
وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة: إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم
والآداب في الزمن الماضي أدركنا، بسهولةٍ سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أن أوربة النصرانية مدينةٌ لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش، فعارٌ ظاهر كهذا لا يُقبل إلا بصعوبة.
نختم هذا الفصل بقولنا: إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وإن العرب هَذَّبوا البرابرة الذين قَضَوا على دولة الرومان بتأثيرهم الخُلقي، وإن العرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي، فكانوا ممدنين لنا وأئمةً لنا ستة قرون.