الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4 - 1) جامع عمر
جامع عمر الشهير القائم في القدس هو عند المسلمين أقدس مكان في الأرض بعد الحرم المكي والحرم المدني، وقد كان دخوله، حتى السنين الأخيرة، محرماً على كل أوربي، وإلا قتل، وقد قضى الصليبيون منه أعظم العجب حين اقتحموا القدس، وقد عدوه معبد سليمان، وقد نال شهرة عظيمة في أوربة فأقيمت فيها كنائس كثيرة على طرازه، وقد يكون جامع عمر البناء الديني العالمي الوحيد المقدس عند المسلمين واليهود والنصارى على السواء.
بني جامع عمر على مكان هيكل سليمان الشهير الذي جده هيرودس، وأعجب بأبهته تيطس، ذات ساعة، حين حاول إنقاذه من اللهب، وعلى الصخرة التي أراد إبراهيم ذبح ابنه عليها امتثالاً لأمر الله كما تقول القصة، والأماكن التي تجمع في العالم من الذكريات مثل هذا المكان قليلة إلى الغاية ولا تجد مكاناً اتفق له من التقديس ما اتفق لهذا المكان لا ريب، ففيه كان سليمان يعبد رب اليهود القادر، وعليه كان الرومان يسبحون بحمد ملك الآلهة والناس جو بيتر العظيم، وفيه وضع الصليبيون صورة المسيح، والآن يعبد المسلمون فيه إله النبي محمد.
ولم تكن قيمة جامع عمر بما يثير من الذكريات فقط، بل هو من أهم ما شاده الإنسان أيضاً، وهو أعظم بناء يستوقف النظر في فلسطين بالحقيقة.
ويقوم جامع عمر في وسط ساحة فسيحة يبلغ طولها خمسمائة متر، وتعدل مساحتها ربع مساحة القدس تقريباً، ويحيط بها سور يطلق العرب عليه اسم الحرم الشريف، وتشتمل على مبان مهمة كثيرة نذكر منها المسجد الأقصى على الخصوص.
وأثبتت مباحث علم الآثار الحديثة أن ساحة الحرم القدسي هي ذروة جبل مرية التي مهدها سليمان وسواها وأنشأ عليها هيكله، ووسع ملوك اليهودية، ولا سيما هيرودس، نطاقها مرة بعد مرة، ونرجح أن الصخرة المقدسة الواقعة في وسط جامع عمر كانت أعلى نقطة في ذروة جبل مرية؛ فاحترمها سليمان في أثناء تلك التسوية.
وبني جامع عمر على رقعة من الرخام قائمة الزوايا مرتفعة ثلاثة أمتار من أرض الحرم، وقام جامع عمر على المكان الذي كان فيه هيكل إسرائيل على التحقيق، ويرقى إليه بمراق كثيرة قليلة الدرج تعلوها حنايا مصنوعة على رسم البيكارين قائمة على أعمدة رخامية ذات تأثير حسن جداً.
شكل 1 - 5: مئذنة عيسى في المسجد الكبير بدمشق.
ويزين تلك الرقعة من الحرم منابر للوعظ ومحاريب للصلاة
…
إلخ، ويرى بعض هذه الآثار طريفاً إلى الغاية.
ويخطئ الأوربيون حين يسمون ذلك المسجد جامع عمر، فهذا البناء ليس مسجداً في الحقيقة، ولم ينشئه عمر، وإنما أشار عمر، الذي لم يمكث في القدس سوى زمن قصير، إلى المكان الذي رغب في إقامة مسجد عليه، ويرى مسيو دوفوغيه أن بناء هذا الجامع تم بعد وفاة عمر بمدة طويلة، أي في السنة الثانية والسبعين من الهجرة (691 م)، ولا يسميه العرب بغير اسم قبة الصخرة؛ لاشتماله، بالحقيقة، على الصخرة المقدسة التي تكلمنا عنها.
شكل 1 - 6: مدرسة وأساتذتها وتلاميذها في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويذكرنا ذلك البناء الإسلامي القديم في مجموعه بالطراز البيزنطي، ولكن ملوك المسلمين أصلحوه وأتموه في مختلف الأدوار، فاشتمل على نماذج مهمة للفن العربي في تلك الأدوار.
وجامع عمر مثمن الزوايا، ويدل من أربعة أبواب مقابلة للجهات الأربع، ويكسو الرخام جوانبه السفلية، ويستر الميناء الفارسي الجميل جوانبه العليا التي تم تصفيحها به بعد إنشائه بزمن طويل، أي في زمن السلطان سليمان القانوني (سنة 1561).
ويتلألأ ذلك الميناء الجميل كالحجارة الكريمة حين تلقي الشمس أشعتها على جامع عمر فيكتسب خارج هذا الجامع منظراً سحرياً خيالياً لا عهد لجوانب المباني الأوربية الدكن بمثله، والمرء قد يفكر في تلك القصور السحرية التي يبصرها بخياله أحياناً، ولكن الخيال دون الحقيقة في أمر جامع عمر.
وليس داخل جامع عمر شيء من التعقيد، ففيه طاقان مثمنان ذوا مركز واحد، ويحاط هذان النطاقان بسياج مدور حول الصخرة الشريفة التي هي في وسط هذا الجامع.
وزينة داخل جامع عمر غنية إلى الغاية، وسيقان أعمدة نطاقه الأول من الرخام المأخوذ من المباني القديمة والمختلف شكلاً وارتفاعاً، وتختلف تيجان هذه الأعمدة في الشكل أيضاً، ويرجع أكثرها إلى أوائل العصر البيزنطي، ويستر أعلى جدران هذا الجامع فسيفساء باهرة ترجع إلى القرن العاشر من الميلاد كما يظن، ويحيط بقاعدة قبته عصابة عريضة مزينة بآيات قرآنية عن المسيح مكتوبة بخطوط كوفية ذهبية.
شكل 1 - 7: مسجد عمر في القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وجددت قبة جامع عمر في سنة 1021 م، أي في زمن ازدهار الفن العربي، وهي ذات زخرف داخلي رائع، أي مكسوة بالفسيفساء والنقوش والرسوم العربية الجميلة المتشابكة المعقدة إلى الغاية.
وداخل المسجد باهر جميعه، فحواجزه مستورة بالميناء والفسيفساء والرسوم الذهبية وصحائف البرونز المطرقة، ونوافه مزينة بقطع زجاجية ملونة في القرن السادس عشر، موصول بعضها ببعض وصلاً منسجماً بالجص، لا بالرصاص كما في أوربة، وينشأ عن هذا الوصل المنسجم ما لا نراه في كنائسنا من الظل والنور.
شكل 1 - 8: جامع عمر بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وترى في وسط جامع عمر تلك الصخرة الشريفة التي يقال: إن ملكيصادق وإبراهيم وداود وسليمان كانوا يضحون بقرابينهم عليها، ونرى مع ذلك، أن تلك الصخرة هي ذروة جبل مرية التي احترمها سليمان حين توطئته لهذا الجبل، كما ذكرنا آنفا، فاتخذها مذبحاً في هيكله لا ريب.
ويبلغ طول تلك الصخرة المقدسة سبعة عشر متراً، ويبلغ ارتفاعها مترين، ويحيط بها سياج حديدي مصنوع في زمن الصليبيين، ويشار في الغار الذي تحت تلك الصخرة إلى المكان الذي روي أن داود وسليمان صليا فيه.
وتقول القصة العربية: إن محمداً ذهب على الدابة الخيالية التي تكلمنا عنها آنفاً من ذروة تلك الصخرة ليكلم الله، وتؤيد هذه القصة بوجود سرج رخامي لتلك الدابة لا يزال مرصعاً في قبة الصخرة، وتذهب هذه القصة إلى أن جبريل هو الذي منع تلك الصخرة من مصاحبة محمد في رحلته بعد أن ارتفعت من الأرض بضعة أمتار، وأن تلك الصخرة بقيت معلقة في الهواء منذ ذلك الحين راغبة عن العودة إلى حيث كانت، وهذا ما يردده سدنة جامع عمر للزائرين بإخلاص، ومع ذلك، فقد أتيح لي في أثناء دراستي الطويلة لجامع عمر وحديثي الكثير مع قيمه أن أسأل هذا القيم عن رأيه في ذلك فرأيته ضعيف الإيمان بصحته، وظهر لي أن حاكم القدس العثماني في الوقت الحاضر حظر على سدنة ذلك الجامع رواية هذه الأسطورة للنصارى.
شكل 1 - 9: داخل مسجد عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويعلو قبة جامع عمر هلال عظيم.
ويرى في الحرم، أمام جامع عمر، منبر عربي جميل مصنوع من الرخام الأبيض وتعلوه قبة صغيرة قائمة على حنايا مصنوعة على شكل نعل الفرس، ويسمى هذا المنبر منبر عمر وإن أنشئ بعد عمر بزمن طويل، أي في القرن الخامس عشر من الميلاد.
ونذكر من بين الأبنية المهمة القائمة في الحرم البناء المعروف بقبة السلسلة أو محكمة داود، وهذا البناء جوسق حجري أنيق مبني على الطراز البيزنطي ومستور بالميناء الفارسي، وتقول القصة: إن محكمة داود كانت قائمة هنالك.