الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُجِله المسلمون حقٍّا، وإلى المسلمين يُعْزَى القولُ الصائب:«مِن البشر مَن يتعلمون فيَعْلَمون، ويُعَدُّ من سِوَاهم من الحشرات أو ممن لا يَصلُحون لشيء ولا يَنْفَعون.»
ولدى المسلمين أماكن دينية أخرى أقلُّ أهمية من المساجد، كمزارات الأولياء التي هي أبنيةٌ صغيرةٌ مكعَّبة تعلو كلَّ واحدة منها قُبَّة، والتي لا يخلو منها بلدٌ إسلاميٌّ تقريباً، ويقع مزار الولي الذي نشرنا صورته في هذا الكتاب في الغابة المقدسة الرائعة الواقعة بالقرب من البليدة.
وأذكر، بجانب تلك المباني الدينية، الزوايا التي يُقيم بها أصحاب الطرق من الدراويش، والتي أرى عددنا قليلًا إذا ما قيست بعدد الأديار الواسعة الانتشار لدى الأمم النصرانية في أوربة، ولا تختلف الزوايا عن مباني المسلمين الأخرى إلا قليلاً، ولا ترى فيها منظر أديارنا الأدجن.
(3) الأخلاق في الإسلام
أصول الأخلاق في القرآن طيبة؛ فالقرآن يأمر بالصدقة والإحسان والقِرَى والاقتصاد في الرغائب والوفاء بالعهد وحب الأقربين واحترام الوالدين وحماية الأيامى واليتامى وبما نجده مكرراً فيه من درء السيئة بالحسنة، وتُطابق أصول الأخلاق في القرآن ما ورد في الإنجيل تقريباً.
بيد أنه لا أهميةَ كبيرةً لدراسة ما في أحد الكتب من أصول الأخلاق ما كانت مبادئ الأخلاق في كل دين طيبة، وليست مكارم الأخلاق التي تُؤمر بها الأمم، إذن، هي التي تجب معرفتها عند البحث في شؤونها؛ بل يُنظر إلى ما عَمِلت به منها، ولا عَجَب، فقد دلَّت المشاهدة على أن مطابقة الأعمال للأقوال ضعيفة جداً على العموم.
وقد حاولنا، في الفصل الذي خصصناه في كتابنا الأخير للبحث في نشوء الأخلاق، أن نُثْبِت أن شأن الدين في تكوين الأخلاق أمرٌ ثانويٌّ على العموم، وأن الأخلاق وليدة المنفعة والبيئة والرأي وقواعد الحقوق والانتخاب الطبيعي والتربية والذكاء
…
وما إلى ذلك، وقد ذكرنا فيه أن أقدم الديانات لم تنص على أصول الأخلاق، وأن النص على مبادئ الأخلاق لم يكن في غير أديان الهندوس وأديان موسى وعيسى ومحمد، وأن هذه الأديان لم تَصنع أكثر من تأييدها لما كان معروفاً، وأن هذا التأييد قام على الأمل في الثواب والخوف من العقاب في اليوم الآخر، وأن خوف العقاب لم يكن مهيمناً على أكثر الناس ما جعلت تلك الأديان غفران الذنوب أمراً سهلاً.
شكل 5 - 10: مسرجة مسجد قديمة مصنوعة من البرونز (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ومن يَطُفْ قليلاً في العالم، ويدرُس أحوال الناس في غير الكتب يَرَ الدين أمراً مستقلاً عن الأخلاق استقلالاً تاماً، ولو كان بين الدين والأخلاق سبب؛ لكان أكثر الأمم تديناً أكثرها أخلاقاً مع أن العكس هو الواقع. وعندي أن إسبانية وروسية أكثرُ بلاد أوربة عملاً بالشعائر الدينية، وعندي أن مستوى الأخلاق فيهما دونَه في البلاد الأخرى كما ذهب إليه مَن دَرَس أمرهما بعناية.
وليس في ديانة الأمة، إذن، ما يجب أن يُبحث عن علل أخلاقها ما كان لجميع الأديان، كما قلتُ، أصولٌ أخلاقية طيبة لو عُمِل بها لدخل العالم في دور ذهبي، وما اختلفت طريقة العمل بتلك المبادئ باختلاف البيئات والأزمنة والعروق والأحوال، وما تباينت الأمم ذات الديانة الواحدة في مقاييسها الأخلاقية.
ويُطبَّق ما تقدم على جميع الأديان، ومنها الإسلام، فمبادئ الأخلاق التي نص عليها القرآن، وإن كانت كاملةً، اختلف تأثيرُها باختلاف الشعوب والبيئات والأجيال.
شكل 5 - 11: مصباح عربي قديم كان في مسجد الحمراء (يبلغ ارتفاعه مترين و 15 سنتيمتراً، متحف العاديات الإسباني).
وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً، ولا سيما الأمم النصرانية، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة ووفاؤهم بعهودهم ونبلُ طبائعهم مما يستوقف النظر ويناقض سلوك الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوربية أيام الحروب الصليبية.
ولو صحَّ أن يكون للأديان ما يُعزَى إليها من التأثير لوجب أن نقول: إن القرآن أفضلُ من الإنجيل ما بَدَت أممُ الإسلام أسمى أخلاقاً من أمم النصرانية فيما مضى، ولكن ما قلناه من استقلال الأديان على الأخلاق يدل على انتفاء صحة هذا الاستنتاج، فأخلاق المسلمين، كأخلاق النصارى، اختلفت باختلاف العوامل المذكورة صعوداً وهبوطاً.
ونشأ عن سيادة الترك الطويلة ونظامِهم السياسي انحطاطٌ في أخلاق الشرقيين الذين خضعوا لحكمها، وإذا كانت مكارم الأخلاق تتبخَّر، ويَعُمُّ الفساد في بلادٍ كتركية، حيث يكون دين ولي الأمر وعُمَّاله أهواءهم، وحيث يكون كل إنسان عرضةً لمظالم هؤلاء الطامعين في انتهاب ما في أيدي الناس ليغتنوا، وحيث يقنط الناس من العدل فلا ينالون شيئاً إلا بالرشوة، فإنك ترى أخلاق الشرقيين الخاضعين لسلطان الترك قد انحطت بحكم الضرورة، ولكن القرآن بريءٌ من هذا الانحطاط براءةَ الإنجيل من انحطاط النصارى الخاضعين لمثل ذلك السلطان.
شكل 5 - 12: دراويش دوارون (مولوية، من رسم إعدادي).
وما تقدَّم يُثبِت، بدرجة الكفاية، فسادَ الرأي الأوربي القائل:«إن دين محمد هو سببُ ما يشاهَد في بعض أمم الشرق من الانحطاط» ، ورأيٌ فاسد مثل هذا مصدره ما قيل من إبداعه لمبدأ تعدد الزوجات، وما زُعم من أن جبريته تحمل الإنسان على الكسل، وما أذيع من أن محمداً لا يطالب أتباعه بغير الشعائر السهلة؛ فالقارئ الذي سار معنا إلى هنا يرى درجة بُعْد هذه المزاعم من الصحة، وقد رأينا أن مبدأ تعدد الزوجات كان شائعاً في الشرق قبل ظهور مُحَمَّد بقرون كثيرة، وأن جبرية القرآن ليست أشدَّ مما جاء في كتب الأديان الأخرى، وأن العرب، إذا كانوا جبريين بسجيتهم، ولم تؤدِّ جبريتُهم إلى الخمول ما شادوا دولةً عظيمة، وأن أصول الأخلاق في القرآن ساميةٌ سموَّ ما جاء في أي كتاب ديني آخر، وهذا إلى أن القرآن لو كان عاملاً في انحطاط مسلمي الشرق لوجب أن يَتَفَلَّت من ذلك الانحطاط الشرقيون الذين لا يقولون بمبدأ تعدد الزوجات ولا يَبْدُون جَبريين كنصارى سورية. ونصارى سورية، كما أجمع كلُّ من بَحَث في أمور الشرق، أحطُّ أخلاقاً من المسلمين بدرجات.
شكل 5 - 13: نوافذ زجاجية في مكان الصلاة من المسجد الأقصى بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وكان يمكننا أن نختم هذا الفصل بقولنا: إن أصول الأخلاق في القرآن عاليةٌ علوَّ ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها، وإن أخلاق الأمم التي دانت له تحولت بتحول الأزمان والعروق مثل تحول الأمم الخاضعة لدين عيسى، وإن التحول نشأ عن عوامل لم يكن للمبادئ الدينية أثرٌ كبير فيها، غيرَ أن أهمَّ نتيجة يمكن استنباطُها من جميع ما تقدم: هي تأثير القرآن العظيم في الأمم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها ما للإسلام من السلطان على النفوس قليلة جداً، وقد لا تجد ديناً اتفق له ما اتفق للإسلام من الأثر الدائم، والقرآن هو قُطب الحياة في الشرق، والقرآن هو ما نرى أثره في أدق
شؤون الحياة.
أجل، دَخَلَت دولة العرب في ذمِّة التاريخ، بيد أن الدين، الذي كان سبباً في قيامها لا يزال ينتشر، ويسيطر ظلُّ النبي من قبره على ملايين المؤمنين الذين يسكنون أقطار إفريقية وآسية الواسعة الواقعة بين مراكش والصين والبحر المتوسط وخط الاستواء.
أجل، إن الإنسان ألعوبةٌ في يد كثير من السادة من غير أن يَدرِي، ولكن أشد هؤلاء السادة جبروتاً هم الذين يقضي الإنسان حياته مستغيثاً بهم خائفاً منهم، ويَسفِك الدماء ويذرِف الدموع من أجلهم، ويشهَر أقسى الحروب، ويقترف أفظع الجرائم في سبيلهم، مع أنهم ليسوا غيرَ ظلالٍ عابرة مقيمة بعالم الرؤى والأوهام.
حقاً إنها لظلالٌ خفيفة، ولكنها مرهوبة، وحقاً أن فاتحين كثيرين سادوا العالم، وأخضعوا الناس لسلطانهم، ولكنك لا تَجِد واحداً منهم كان له من السلطان ما يساوي سلطان بعض الأموات.