الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شكل 1 - 10: سقف الرواق الأول الداخلي في جامع عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وعد بعضهم برج الرملة أثراً صليباً، وهو يذكرنا بالطراز الذي نقله الصليبيون إلى أوربة في الحقيقة، ولكنه لا ينبغي الشك في أصله العربي الثابت بدقائقه وفن بنائه، وبالكتابة التي تدل على أنه أنشئ في سنة (700 هـ/1310 م)، والتي تطابق ما رواه أحد مؤرخي العرب من أن ابن السلطان قلاوون هو الذي بناه، وتنفي الحالة التي عليها الحجر المنقوشة عليه تلك الكتابة كل احتمال بإضافة هذا الحجر مؤخراً إلى برج الرملة.
(4 - 5) مباني العرب في دمشق
ذكرنا، حين بحثنا في أحوال العرب قبل ظهور محمد، أن دمشق كانت مستودع تجارة الشرق في فجر التاريخ، وكان العرب يعرفون دمشق قبل ظهور محمد بعدة قرون لجلبهم محاصيل بلادهم إليها، وكانت دمشق جنة الدنيا في نظرهم، وكانت دمشق من
أروع مدن العالم في غابر القرون كما هي الآن، ودمشق هي التي قال القيصر جوستنيان إنها «نور الشرق.»
شكل 1 - 11: محراب زكريا في المسجد الأقصى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت دمشق من الأهمية ما اتخذها العرب معه عاصمة لدولتهم بدلاً من المدينة، كما قامت بغداد مقام دمشق بعد زمن طويل.
وظلت دمشق مركزاً كبيراً للتجارة والعلوم والصناعة في الشرق حتى بعد أن عادت لا تكون عاصمة لدولة العرب، وكانت لمدرستها الطبية ومرصدها الفلكي وقصورها ومساجدها شهرة عالمية.
وظلت دمشق، التي كانت معاصرة لدور الأهرام، موجودة مع استيلاء الآشوريين والميديين والمصريين والفرس والأفارقة والرومان والعرب والترك عليها بالتتابع، ولكن انتهابها وإحراقها مما أتي على قصورها تقريباً.
والعرب، وإن زالت سيادتهم عن دمشق، يملكونها بدينهم وعاداتهم ولغتهم، وقد تكون دمشق من أكثر مدن العالم اصطباغاً بصبغة العرب، وقد نجت دمشق من النفوذ
شكل 1 - 22: محراب عمر في المسجد الأقصى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
الأوربي تماماً؛ لعطلها من مكان للأوربي إلا نادراً، وذلك خلافاً لبقية سورية، وليست دمشق كالقاهرة التي تتفرنج كل يوم مع أن العرب هم الذين أنشأوا القاهرة، وثبت ملكهم فيها عدة قرون، ومع أن القاهرة تشتمل على أبنية عربية أعظم قيمة مما في دمشق.
وعلى من يريد أن يطلع على طبائع الشرق، وأن يرجع إلى منبع التاريخ، ويعيش في الماضي، أن يزور دمشق.
وتبدو دمشق ذات المآذن الجميلة، وغوطتها للناظر من بعيد ذات منظر ساحر أجمع السياح على امتداحه وإن لم أره يعدل منظر القاهرة الفتان من فوق قلعتها، قال مسيو دافيد:
يرى السائح الذي يقترب من دمشق أنه لا شيء يعدل عظمتها وروعتها وسحرها، فلدمشق غوطها النضرة التي تقع بين سهل واسع، والتي تتخللها منازل القوم وحدائقهم، والتي تحيط بأغرب ما في الدنيا وأسطع ما فيها
من أسوار خلافاً لمعاقل الغرب الشاحبة الكامدة القذرة، وتبدو هذه الأسوار، المؤلفة من حجارة صفر وسود مدورة ومربعة ومثلثة على ألف شكل مع الانسجام، خملة موشاة بالزبارج كما وصفها شعراء الشرق.
وليس ذلك النطاق كل ما يبدو للأعين، فهنالك أسوار في داخل المدينة تفصل بين أحيائها، وهنالك أسوار ذات أبراج مربعة قائمة على جوانبها، وهنالك أسوار تعلوها زخارف على شكل عمائم.
ولكن هذا ليس سوى المرحلة الأولى من المنظر، فصميم المدينة أسنى وأبهى، وهو يتألف من أشجار تألفه من بيوت، وذلك أن هنا صفا من شجر السرو، وهنا محلاً للنزهة، وهناك أقواساً عربية، وهناك سوقاً للأخذ والعطاء، وهنالك نخلاً تهز رؤوسها الجميلة فوق حوض على شكل نصف دائرة لعين عظيمة، وهنالك أشجاراً مثمرة مصفوفة على شكل رقاع الشطرنج داخل قصر إسلامي، ثم هنالك أكثر من ألف قبة تعلوها الأهل النحاسية والمآذن الرفيعة القائمة على جوانبها.
ولتلك الروضة المزهرة أشجار عالية وحدائق جميلة ذات وقع في النفوس كأشعة الشمس الوهاجة، ولها شعب بردى السبع التلوية الفضية التي تهب دمشق سحر الألوان أيضاً تلك هي دمشق التي يسميها العرب بالشام، والشام ما يسمي به العرب بلاد سورية.
والأوربي، حين يدخل دمشق التي يسميها العرب درة الشرق، لا تستهويه أول وهلة، وإنما تؤثر فيه طرق معوجة قذرة تقوم على طرفيها بيوت خربة ذات جدران مصنوعة من طين وتبن، وتؤثر فيه أعفار تعمي الأبصار بما لا يتصوره الإنسان، ولا يزول هذا التأثير السيئ عن الأوربي إلا بعد تألفها.
وتجارة دمشق الواسعة القائمة بينها وبين بقية الشرق تمنحها حياة عظيمة وطابقاً شرقياً خاصاً، والقوافل التي تأتي من بغداد توصل إليها منتجات فارس والهند، وتحمل القوافل إلى ذينك البلدين نسائجها الحريرية المشهورة وبزوزها وجلودها المدبوغة ونحاسها المكفت بالفضة.
وأقول، مكرراً: إنه يجب على من يرغب في اجتلاء الشرق وألوانه اللامعة أن يزور دمشق، وأهم ما يستوقف النظر في هذه المدينة القديمة ويبدو متنوعاً هو طرقها
وأسواقها التجارية الطريفة، واستجلاء أمثلة مختلف أمم الشرق في بضع ساعات، ففيها يرى الفرس ذوو القلانس الفروية والخناجر الزنارية، ويرى السوريون ذوو الحُلل المخططة والكوفيات والعقل الوبرية، وترى النساء العربيات ذوات المآزر البيض التي تلمع عيونهن المتوقدة من خلالها، ويرى الدمشقيون ذوو الطرابيش الحمر أو العمائم البيض والألبسة الحريرية المخططة بخطوط بيض وسود والمشدودة بزنانير، ويرى حجاج البيت الحرام ذوو الثياب الرثة، ويرى قواسو القناصل ذوو السياط والملابس الموشاة الزرق والخطوات الموزونة، ويرى الموظفون العثمانيون ذوو الأردية الرسمية القاتمة، ويرى فرسان الدروز ذوو العجب المنطقون بالسلاح والراكبون عتاق الخيل التي تعلوها سروج جلدية قرمزية مزينة بقطع لامعة من الذهب والفضة، وترى قطر الجمال يحرسها تجار آتون من كرمان والأناضول وشواطئ الفرات، ويرى الأكراد والأعراب والأرمن والموارنة واليهود وروم الأرخبيل، ويرى في هذه الأخلاط اختلاف في الألوان كالذي يرى في قوس قزح، ويرى فيها ذوو البياض الناصع وذوو السواد الحالك وذوو الألوان التي بين اللونين.
وقد خيل إلي، حينما كنت جالساً على متكأ في إحدى القهوات العربية بدمشق، وكنت أتأمل أولئك الناس من خلال دخان نارجيلتي، أي من خلال هذا المنظار السحري الغريب، أن قدرة ساحرة نقلتني من فوري، ولساعة، إلى بيئة حاوية لأمم آسية في غابر الأزمان.
أجل، رأيت، على ما يحتمل، منظراً ممنوعاً كذلك على الجسر الممتد من غلطة إلى الضفة الأخرى من القرن الذهبي في الآستانة، ولكن العنصر الأوربي هو الغالب هنالك مقداراً فمقداراً، ومن ثم أرى أن الشرق عاد لا يتجلى وحده في الآستانة مع ما فيها من الأمثلة المتباينة لمختلف شعوب العالم.
ويستعذب علماء الآثار وهواة التحف ورجال الفن طول الإقامة بدمشق؛ لما يجدون فيها من بقايا المباني ما يتطلب وصفة مجلداً ضخماً، وما يخشى أن يزول بعد زمن قليل لتداعيه يوماً بعد يوم، ويرى في كل خطوة من ضاحية الميدان الواقعة على مدخل طريق مكة أنقاض مساجد وعيون وأبنية أخرى ترجع إلى ما قبل مئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، وتشتمل على ضروب من الزينة القديمة وفق تقاليد العرب، ويشاهد في تلك الآثار أثر للفن الفارسي غير قليل.
ويمكن الباحث أن يلاحظ في دمشق وحدها قصوراً على الطراز العربي القديم مشتملةً على وسائل الراحة والرفاهية مع الذوق لا يرى مثلها في أرقى مساكن أوربة، ومن دواعي الأسف أن نرى سنة الكون تجري حكمها على هذه القصور فتزول.
شكل 1 - 13: محراب المسجد الأقصى ومنبره بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وبما أنني سأتكلم في فصل آخر عن أحد هذه القصور فإنني أكتفي الآن بذكر الجامع الكبير الذي هو أقدم مباني دمشق.
بني الجامع الكبير، الذي يرجع قسم منه، على الأقل، إلى ما بعد الهجرة بزمن قليل، على أنقاض معبد وثني حوله النصارى إلى كنيسة، ثم التهمته النيران في سنة (461 هـ/ـ 1069 م) فجدد بناؤه، وهو دون ما كانت عليه حالته الأولى، وأقل أهمية من مساجد القاهرة على الخصوص.
وأقيم جامع دمشق الكبير على هيئة المساجد الإسلامية الأولى، فهو يتألف مثلها من ساحة كبيرة قائمة الزوايا ذات أروقة خصص بعضها للصلاة، وأقيمت على أركانها مآذن، وسنصف في الفصل الذي نتكلم فيه عن عرب مصر مساجد كثيرة من هذا الطراز.
وروى مؤرخو العرب أن الرخام النادر كان يستر أسفل جدران ذلك المسجد الجامع، وأن الفسيفساء كانت تستر أعلاها كما تستر قبته، وأن سقفه كان مصنوعاً من الخشب
شكل 1 - 14: برج الرملة (من صورة فوتوغرافية).
المموه بالذهب، وأن مصابيحه، وعددها ستمائة، كانت من الإبريز، وأن محاريبه كانت مرصعة بالحجارة الثمينة.
ولم يبق من تلك الزينة سوى الشيء القليل، وتزين جدرانه الآن خطوط جميلة، ويزين نوافذه زجاج ذو ألوان كثيرة، ويشاهد في مواضع منه أثر للفسيفساء القديمة.
ويشتمل ذلك الجامع الكبير على مئذنتين مربعتي الشكل، وعلى مئذنة ثالثة أنيقة مثمنة الشكل ذات أروقة منضدة ومنتهية بكرة وهلال، ومئذنة العروس أقدم هذه المآذن
الثلاث، وترجع في قدمها إلى القرن الأول من الهجرة كما يعتقد، ومئذنة عيسى، وهي إحدى هذه المآذن، مربعة الشكل، وتقول القصة العربية: إن عيسى سينزل على ذروتها يوم الحساب لا ريب.
ظهر مما تقدم أن العرب احترموا منذ دور الفتح الأول، آثار الأمم التي ملكوها ولم يفكروا في غير الانتفاع بحضارتها وترقيتها، وذلك خلافاً لكثير من الأمم الفاتحة التي جاءت بعدهم، وأن العرب الذين كانوا أميين في بدء الأمر لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم، وأنهم تعلموا بسرعة ما كانوا يجهلون من فنون الحرب، واستعمال آلات الحصار الرومية؛ فسبقوا أعداءهم في ذلك، وأنهم بعد أن كانوا مبتدئين في العلوم والفنون ماثلوا الأمم الأخرى فيها بفضل ما أنشأوا من المدارس ثم تقدموها، وأنهم، بعد أن كانوا غير عالمين بفنون العمارة، وبعد أن استخدموا مهندسين من الروم والفرس في تشييد مبانيهم، استطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا كل الخلاص من كل مؤثر أجنبي بما أحدثوا من التغيير والتبديل في فنون العمارة وفق ذوقهم الفني كما نرى ذلك عما قليل.
هوامش