الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرًا استند في كلامه على أن أوَّل ما نزل من القرآن هو المدثر، إلى ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحدِّث عن فترة الوحي، وكأنه لم يسمع بما حَدَّثَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحي قبل فترته، من نزول الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم في حراء بصدر سورة اقرأ "كما روت عائشة"، فاقتصر في إخباره على ما سمع ظانًّا أنه ليس هناك غيره، اجتهادًا منه، غير أنه أخطأ في اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة في القول الأول، ومعلوم أن النصَّ يُقَدَّمُ على الاجتهاد، وأن الدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال، سقط به الاستدلال، فبطل إذًا القول الثاني، وثبت الأول"1.
أقول: لعل جابر بن عبد الله أراد أن أوائل المدثر نزل في أول الرسالة، وآيات سورة العلق نزلت في بدء النبوة، وبذلك يرتفع الإشكال بدليل قوله تعالى:{قُمْ فَأَنْذِرْ} .
أول أن آيات المدثر من أوائل ما نزل، لا أول ما نزل على الإطلاق -والله أعلم.
1 انظر مناهل العرفان ج1 ص87، 88.
آخر ما نزل:
اختلف العلماء في آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق اختلافًا كثيرًا، لعدم وجود أثر صحيح مسند إلى رسول الله -صلى الهل عليه وسلم، يُعْتَمَد عليه في تحقيق ذلك على وجهٍ يقطع الخلاف، ويزيل الالتباس، وقد انتهت أقوال العلماء في هذا الأمر إلى عشرة أقوال أشهرها أربعة:
الأول: آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة:
1 آية: 281.
أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس.
وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم قال: "آخر ما نزل من القرآن كله:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، الآية.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول.
الثاني: إن آخر ما نزل هو قول الله تعالى في سورة البقرة أيضًا:
أخرجه البخاري عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن عمر.
الثالث: أن آخر ما نزل آية الدَّيْن في سورة البقرة أيضًا، وهي قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .
إلى قوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 2.
وهي أطول آية في القرآن.
أخرج بن جُرَيج عن سعيد بن المسيب "أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدين".
أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: "آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين".
ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي رضي الله عنه من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف؛ لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح.
قال الزرقاني في مناهل العرفان3 بعد أن سرد هذه الأقوال: "ولكن النَّفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولًا هو قوله الله تعالى:
1 آية: 278.
2 آية: 282.
3 ج1 ص90.
وذلك لأمرين:
أحدهما: ما تحمله هذه الآية في طيَّاتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين، بسبب ما تحثّ عليه من الاستعداد ليوم المعاد، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله، واستيفاء الجزاء العادل من غير غبنٍ ولا ظلم، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها.
ثانيهما: التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليالٍِ فقط، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص ِّمثله".
الرابع: أن آخر ما نزل هو سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} رواه مسلم عن ابن عباس.
ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعِرًا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت:"نعيت إلى نفسي"، وكذلك فهم بعض كبار الصحابة.
كما ورد أن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال: "الكمال دليل الزوال".
ويحتمل أيضًا أنها آخر ما نزل من السور فقط، ويدل عليه رواية ابن عباس: آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} .
ويظن بعض أهل العلم أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1.
والحق أنها ليست آخر ما نزل بإطلاق.
1 آية: 3.
ولعلك لم تنس أن آية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} .
كانت آخر الآيات نزولًا على الإطلاق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليالٍ فقط، وتلك قرينة تمنعنا أن يفهم إكمال نزول القرآن من إكمال الدين في آية المائدة المذكورة.
والأقرب أن يكون معنى إكمال الدين فيها يومئذ هو إنجاحه وإقراره، وإظهاره على الدين كله، ولو كره الكافرون.