الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما شبهة إيهام بقاء الحكم، وتعريض المكلَّف للجهل والخلط، فهي مردودة بأن النَّسْخَ لا يُصَارُ إليه إلّا بدليل معلوم للمكلَّف، وإذا عُلِمَ الدليل الناسخ زال الجهل، وبَعُدَ احتمال الخلط في الأحكام1.
1 انظر اللآلئ الحسان ص202، 203.
الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة
وهذا النوع من النَّسْخِ جائز عقلًا، ولكنه لم يقع.
وقد وردت في وقوعه آثار ذكرها الطبري وغيره، لا يعوَّل عليها، لهذا ضربنا عنها صفحًا.
النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل:
ينقسم النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل.
أما القسم الأول: فلا خلاف فيه بين العلماء، وأمثلته كثيرة سيأتيك كثير منها إلى جانب ما قد مضى ذكره، ومعناه: أن الشارع الحكيم إذا نسخ حكمًا أبدله بحكم آخر أخفَّ منه، أو أثقل منه، أو مساوٍ له، لحكمة نعلمها أو لا نعلمها.
أما النَّسْخُ إلى غير بدل، فقد وقع فيه الخلاف بين الأصوليين، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه.
ومن المانعين له الشافعي رضي الله عنه، وهو أوَّل من وضع علم الأصول على الراجح من أقوال المؤرِّخين.
فقد قال في الرسالة1: "وليس يُنْسَخُ فرض أبدًا إلّا أُثْبِتَ مكانه فرض، كما نُسِخَت قِبْلَةُ بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة، وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا".
ومن المجوِّزين: الآمدي2، فهو يقرِّرُ أن مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل، خلافًا لمن شذَّ منهم.
واستدلَّ على وقوعه بأدلة كثيرة، منها:
1 ف 328.
2 راجع ص164 ج3 من الإحكام.
1-
نسخ الأمر بتقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله عز وجل في سورة المجادلة:
ثم نُسِخَ حكمها في الآية التي بعدها، دون أن يأتي بتكليف آخر يحلُّ محلَّ التكليف الأول، وذلك في قوله -جل شأنه:{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2.
فقد أكثر المسلمون من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد منهم يريد أن يجلس بجواره ويناجيه، فثقُلَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله عز وجل أن يحول بينهم وبين هذه المناجاة بطريقة مُثْلَى، فيها تهذيب لنفوسهم، وتعليم لهم بما يجب له صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتبجيل، والأدب معه في الحديث، وتحرِّي الأوقات التي يسألون فيها عَمَّا يَعِنُّ لهم، فأمرهم بتقديم الصدقات عند المناجاة، وكان أكثرهم لا يملك ما يتصدَّق به، فاعتذل أكثرهم مناجاته لعدم وجود الصدقة، ولزم كل واحد مجلسه صلى الله عليه وسلم دون أن يفكِّر في مزاحمته والإسرار إليه كما كان يفعل من قبل، ثم نُسِخَت هذه الفريضة من غير بدل، فدلَّ هذا على وقوع النَّسْخِ إلى غير بدل.
قال سعيد عن قتادة ومقاتل بن حِبَّان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدِّم بين يديه صدقة، فاشتدَّ ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذكره ابن كثير في تفسيره.
وفي رواية الطبري: "فوعظهم بهذه الآية" بدلًا من قوله: "فقطعهم"3.
"وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد، قال علي رضي الله عنه: آية في
1 آية: 12.
2 المجادلة: 13.
3 انظر ج8 ص76، ط. الشعبي، وانظر الطبري 28/ 15.