الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو معجز في تشريعه، وللتشريع كما هو معلوم أحكام وافية بمطالب البشر في كل زمان ومكان، وفي كل حكم من أحكامه ضرب من الإعجاز التشريعي، ويكفي أن نعلم أن هذا التشريع على كثرة قوانينه وفروعه ومسائله يخلو تمامًا من التناقض والاختلاف، والزيغ والانحراف.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1.
1 النساء: 82.
القول بالصرفة:
ومن الباحثين من طوَّعت له نفسُه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة، منهم أبو إسحاق الإسفراييني من أهل السنة، والنَّظَّام من المعتزلة، والمرتضى من الشيعة.
ومعنى الصرفة: أن الله عز وجل قد صرف العرب عن معارضته، وكان في إمكانهم لولا ذلك أن يأتوا بمثله.
وقد اختلفوا في فهم هذه الصرفة، فمنهم من يرى أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم.
ومنهم من يرى أن صارفًا إلهيًّا زهَّدهم في المعارضة، فلم تتعلق بها إرادتهم، ولم تنبعث إليه عزائمهم، فقعدوا عنها على رغم توافر البواعث والدواعي.
ومنهم من يرى أن عارضًا مفاجئًا عطَّل مواهبهم البيانية، وعاق ملكاتهم البلاغية، وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة، على رغم تعلق إرادتهم بها، وتوجه همتهم إليها.
"وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها أو التُمِسَت لهم، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم، بل جاءت على الفرضين الأوَّلَيْن من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة، ولو أنهم حالولوها لنالوها، وجاءت على الفرض الأخير من ناحية
عجزهم عنها، لكن بسبب خارجي عن القرآن، وهو وجود مانع منها قهرًا، ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب، وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين، ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله؛ لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه"1.
وهذا القول بفروضه التي افترضوها، أو بشبهاته التي تخيلوها، لا يثبت أمام البحث، ولا يتفق والواقع.
أما الفرض الأول: وهو أن بواعث المعارضة ودواعيها لم تكن متوفِّرة لديهم، فإن القرآن ينقضه، فقد تحداهم الله بأن يأتوا بسورة من مثله، فلو كانت البواعث والدواعي غير متوفرة لديهم، ما جاز أن يتحداهم؛ فإن التحدي حينئذ يكون عبثًا، والعبث على الله محال.
"وكيف يُقَال: إن الدواعي والبواعث لم تكن متوفِّرة لديهم وهم أساطين البلاغة، وملوك الفصاحة والبيان، وصناعتهم الكلام، وهم أهل حمية ونعرة جاهلية، لا يصبرون على التحدي والاستفزاز.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثقة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به، ويذيع لهم حسن الذكر، وعلوّ الكلمة، وهم مجبولون عليه فطرة، ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصرٍ بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد، والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه، ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليه، حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولَّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق، أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا
1 انظر مناهل العرفان ج2 ص310، 311.
الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة، وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر"1.
وأما الفرض الثاني: وهو أن صارفًا إلهيًّا زهَّدهم في المعارضة، فلو تتعلق بها إرادتهم، ولم تنبعث بها عزائمهم، فينقضه الواقع التاريخي، فإنه قد ثبت من غير طريق أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها فعلًا إلى نفوسهم، ونالت منالها من عزائمهم.
"فالتاريخ -كما يقول الرافعي: لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنهم عارضوا القرآن، فمنهم من ادَّعى النبوة، وجعل ما يلقيه من ذلك قرآنًا. كيلا تكون صنعته بلا أداة، كمسيلة بن حبيب الكذاب، وعبهلة بن كعب، الذي يقال له الأسود العنسي، وطلحة بن خويلد الأسدي، وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية.
أما مسيلة فقد زعم أن له قرآنًا نزل عليه من السماء، ويأتيه به ملك يُسَمَّى "رحمن"، بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسَّل به في أمر إن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سُئِلَ فيه، وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون.
ومن قرآنه الذي زعمه قوله -أخزاه الله: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا.
لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه.
وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون.
1 "إعجاز القرآن الكريم" للرافعي ص169.
وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل.
وقال الجاحظ في الحيوان عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيَّجَ مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وكل كلامه على هذا النمط واهٍ سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج، مبتذل المعنى، مستهلك من جهتيه.
وأما أبو الأسود العنسي، فقد كان يدَّعِي أنه يوحى إليه، ولم يزعم أن له قرآنًا.
وأما طليحة الأسدي فقد ادَّعى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه بالوحي، ولم يكن يزعم أنه يعارض القرآن لأن قومه كانوا فصحاء لم يتابعوه إلّا حمية وعصبية، وإنما كانت كلمات يزعم أنها نزلت عليه، منها ما جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي، وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله قيامًا، فإن الرغوة فوق الصريح.
ولكن الرجل أسلم فيما بعد، وحسن إسلامه، وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.
وأما سجاح التميمية فقد ادَّعت النبوة، وزعمت أنه يوحى إليها بما تأمر، وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقهم بعدها ملامة.
وفي رواية صاحب الأغاني: أنه كان فيما ادَّعت أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قوم يبغون.
وهي كلمة مسيلمة أيضًا.
وقد أسلمت هذه المرأة فيما بعد، وحسن إسلامها.