الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا" ، فقال: ما أجد شيئًا، فقال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟ " قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن".
ولقد أعانهم على حفظه أيضًا كثرة تلاوته في الصلوات الخمس، وفي قيام الليل، وفي مجالسهم المختلفة، فقد تعبَّدهم الله بتلاوته وسماعه وتدبره والعمل به، وجعله منهج حياتهم ونور قلوبهم، وشفاء أرواحهم وأبدانهم، فجعلوه شغلهم الشاغل في حِلِّهم وترحالهم، فملك عليهم بحلاوته شغاف قلوبهم، وكان لهم الروح والريحان، فحفظه في صدورهم، واستعانوا على حفظه بكتابته كما قلنا، لئلَّا يفوتهم منه شيء.
وجمع القرآن معناه: حفظه في الصدور، ومعناه أيضًا: كتابته في الصحف، وضم بعضه إلى بعض.
وجمعه -بمعنى كتابته- حدث في الصدر الأول ثلاث مرات:
الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
والثالثة: على عهد عثمان رضي الله عنه.
وسنتكلم عن جمعه في كل عصر من هذه العصور الثلاثة بشيء من التفصيل.
جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم:
حَفِظَ القرآن الكريم كله في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كثير من أصحابه، واشتهر بالحفظ منهم عدد؛ لكثرة تلاوتهم له، والتصدي لتعليمه وتفسيره، وجمعه في كتبهم، وغير ذلك من أسباب الشهرة الطيبة.
فما ورد من أنهم سبعة أو أقل، فإنه يحمل على من اشتُهر منهم، لا على إرادة الحصر.
فقد أورد البخاري في صحيحه ثلاث روايات، ذكر في مجموعها سبعة
من القراء، هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء.
1-
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبَيّ بن كعب".
وهؤلاء الأربعة: اثنان من المهاجرين هما: عبد الله بن مسعود، وسالم، واثنان من الأنصار هما: معاذ، وأُبَيّ.
2-
وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبَىّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي".
3-
وروي من طريق ثابت عن أنس كذلك قال: "مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الددراء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد".
وأبو زيد المذكور في هذه الأحاديث جاء بيانه فيما نَقَلَه ابن حجر بإسنادٍ على شرط البخاري عن أنس: أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه: قيس بن السَّكَن، قال: وكان رجلًا منا، من بني عدي بن النجار أحد عمومتي، ومات ولم يدع عقبًا، ونحن ورثناه.
وبيَّن ابن حجر في ترجمة سعيد بن عبيد أنه من الحفاظ، وأنه كان يُلَقَّبُ بالقارئ1.
وذِكْرُ هؤلاء الحفاظ السبعة أو الثمانية لا يعني -كما قلنا- الحصر، وإنما هو محمول على أن هؤلاء هم الذني جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم، واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة
1 الإصابة ج2 ص28.
القرآن -وهم كُثُر- فلم تتوفر فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما وأن الصحابة تفرَّقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن بعض، ويكفي دليلًا على ذلك أن الذين قُتِلُوا في بئر معونة من الصحابة كان يقال لهم القرّاء، وكانوا سبعين رجلًا كما في الصحيح.
قال القرطبي: "قد قُتشلَ يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتِلَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد"1.
وهذا هو ما فهمه العلماء وأولوا به الأحاديث الدالة على حصر الحفاظ في السبعة المذكورين.
"إذ يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء السبعة أنهم هم الذين جمعوا القرآن كله بجميع وجوهه التي نزل عليها.
أو أنهم هم الذين تلقَّوْه من فم النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، بخلاف غيرهم ممن عرف حالهم، فحصر الراوي من علمه منهم، فأخبر به.
أو أنهم هم الذين تصدَّوْا لإلقائه وتعليمه، وخفي حال غيرهم عَمَّنْ عرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه.
أو أنهم هم الذين جمعوه كتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب.
أو المراد أنهم سمعوا له وأطاعوا، فجمعوا بين حفظه والعمل به.
وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية أن رجلًا أتى أبا الدرداء، فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال:"اللهم غفرًا، إنما جَمَعَ القرآن من سمع له وأطاع".
هذه بعض الأجوبة التي ذكرها السيوطي في الإتقان2 نقلًا عن القاضي أبي بكر الباقلاني، ولا يخلو بعضها عن تكلُّفٍ كما قال ابن حجر.
وأصحّ هذه الأقوال ما قدَّمناه من أن هؤلاء المذكورين في روايات البخاري هم الذين اشتهروا بين الناس بحفظ القرآن كله لكثرة تلاوتهم له، وتصديهم لتعليمه، ولكثرة مَنْ روى عنهم، وغير ذلك من الأسباب.
1 الإتقان ج1 ص245ط، الهيئة.
2 ج1 ص246، 247.
وقد نال هذه الشهرة كثير من الصحابة مما يدلُّ على أن الحصر في الأحاديث المتقدِّمَة وغيرها ليس مرادًا.
منهم على سبيل المثال: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبد الله، وابن مسعود، وحذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وتميم بن أوس الداري، وعقبة بن عامر، وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في الإتقان1، والزركشي في البرهان2، وغيرهما من الباحثين.
هذا، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم له كُتَّابًا يكتبون ما ينزل من القرآن؛ مبالغة في صيانته من الضياع والتحريف والتبديل.
من أشهرهم: زيد بن ثابت الذي أسلم بعد الهجرة، وأُبَيِّ بن كعب، وهو أول مَنْ كتب له بالمدينة، وممَّنَ كتب له أيضًا الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن رواحة، وآخرون.
وقد كانوا يكتبون القرآن على سعف النخيل، وصفاح الحجارة، والجلود، والرقاع، وغيرها.
وكان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم ما شاء الله أن يكتبوا، ويحتفظون به في بيوتهم ليرجعوا إليه متى أرادوا.
عن زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلِّفُ القرآن من الرقاع"3.
وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحمَّلُها الصحابة في كتابة القرآن، حيث لم تتيسَّرْ لهم أدوات الكتابة إلّا بهذه الوسائل، فأضافوا الكتابة إلى الحفظ.
1 ج1 ص251.
2 ج1 ص242.
3 أخرجه الحاكم في المستدرك بسنده على شرط الشيخين، ومعنى:"نؤلِّفُ القرآن" نجمعه لترتيب آياته.
وكان جبريل يُعَارِضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، كما جاء في رواية البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسَلَة".
وكان الصحابة يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظًا وكتابة كذلك.
ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعة في مصحف عام، بل عند هذا ما ليس عند ذاك، وقد نقل العلماء أن نفرًا منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، قد جمعوا القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر العلماء أن زيد بن ثابت كان عرضه متأخرًا عن الجميع.
وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ في الصدور والسطور، ولكن لم يُجْمَعْ في مصحف عام؛ لأن الوحي كان ينزل، فلو جُمِعَ في مصحف واحد لأدَّى ذلك إلى مشقَّة كبيرة في ترتيبه؛ إذ لم يكن ترتيب الكتابة وفق ترتيب النزول، بل كانوا يكتبون الآية بعد نزولها؛ حيث يشير صلى الله عليه وسلم إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة كذا، ولو جُمِعَ القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدَّى هذا إلى التغيير كُلَّمَا نزل شيء من الوحي.
"قال الزركشي: "وإنما لم يُكْتَب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلَّا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كَمُلَ نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم".
وبهذا يفسر ما روي عن زيد بن ثابت، قال:"قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيء".
أي: لم يكن جُمِعَ مرتَّبَ الآيات والسور في مصحف واحد.