الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والدليل على أنه متشابه كله قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1.
والدليل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2.
فلا تعارض كما علمت بين هذه الآيات؛ لأن كلًّا منها قد وصِفَ فيها القرآن بالأوصاف التي تخصه على وجهٍ من الوجوه اللغوية السابقة.
1 الزمر: 23.
2 آل عمران: 7.
معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح:
قلت فيما سبق: إن العلماء اختلفوا في معنى المحكم والمتشابه اختلافًا كثيرًا، ولكن يمكننا أن نذكر هنا أهم هذه الأقوال، ثم نبيِّن الراجح منها بالدليل فيما يأتي، وعلى الله قصد السبيل.
يطلَقُ المحكَم في لسان الشرعيين على ما يقابل المنسوخ تارةً، وعلى ما يقابل المتشابه تارة أخرى.
فيُرَاد به على الاصطلاح الأول: الحكم الشرعي الذي لم يتطرَّق إليه نسخ.
ويراد به على الثاني: ما ورد من نصوص الكتاب أو السُّنَّة دالًّا على معناه بوضوحٍ لا خفاء فيه.
وموضوع بحثنا هنا هو الاصطلاح الثاني.
1-
فمنهم من قال: إن المحكم هو الواضح الدلالة، الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، أما المتشابه: فهو الخفي الذي لا يُدْرَكُ معناه عقلًا ولا نقلًا، وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة، والحروف المقطَّعة في أوائل السور، وقد عزا الألوسي الرأي إلى السادة الحنفية.
2-
ومنهم من قال: إن المحكم ما عُرِفَ المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل، أما المتشابه: فهو ما استأثر الله تعالى بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطَّعة في أوائل السور، ويُنْسَبُ هذا القول إلى أهل السُّنَّة على أنه هو المختار عندهم.
3-
ومنهم من قال: إن المحكم ما لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا من التأويل، والمتشابه: ما احتمل أوجهًا، ويعزى هذا الرأي إلى ابن عباس، ويجري عليه أكثر الأصوليين.
4-
ومنهم من قال: إن المحكم ما استقلَّ بنفسه ولم يحتاج إلى بيان، والمتشابه: هو الذي لا يستقبل بنفسه، بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد رضي الله عنه.
5-
ومنهم من قال: إن المحكم ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر، أما المتشابه: فما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمَلُ والمؤول والمشكَل.
ويعزى هذا الرأي إلى الإمام الرازي، واختاره كثير من المحققين.
"وقد بسطه الإمام فقال ما خلاصته: اللفظ الذي جُعِلَ موضوعًا لمعنًى، إمَّا ألَّا يكون محتملًا لغيره، أو يكون محتملًا لغيره، الأول النص، والثاني: إما أن يكون احتماله لأحد المعاني راجحًا، ولغيره مرجوحًا، وإما أن يكون احتماله لهما بالسوية، واللفظ بالنسبة للمعنى الراجح يُسَمَّى ظاهرًا، وبالنسبة للمعنى المرجوح يُسَمَّى مؤولًا، وبالنسبة للمعنيين المتساويين أو المعاني المتساوية يُسَمَّى مشتركًا، وبالنسبة لأحدهما على التعيين يُسَمَّى مجملًا، وقد يُسَمَّى اللفظ مشكلًا إذا كان معناه الراجح باطلًا، ومعناه المرجوح حقًّا. إذا عرفت هذا فالمحكَمُ ما كانت دلالته راجحة، وهو النصُّ والظاهر، لاشتراكهما في حصول الترجيح، إلّا أن النصَّ راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع منه.
أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمَلُ والمؤول والمشكَلُ لاشتراكها في أن دلالة كلٍّ منها غير راجحة، وأما المشتَرَك فإن أريد منه كل معانيه فهو من قبيل الظاهر، وإن أريد بعضها على التعيين فهو مجمَل، ثم إن صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لا بُدَّ فيه من دليل منفصِل، وذلك الدليل المنفصِلُ إما أن يكون لفظيًّا، وإما أن يكون عقليًّا، والدليل اللفظي لا يكون قطعيًّا؛ لأنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص، وعدم المعارِض العقلي والنقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون مظنون.
وعلى ذلك، فلا يمكن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوحٍ بدليل لفظي في المسائل الأصولية الاعتقادية، ولا يجوز صرفه إلّا بواسطة قيام الدليل القطعي العقلي على أن المعنى الراجح محالٌ عقلًا، وإذا عرف المكلَّف أنه ليس مراد الله تعالى، فعند ذلك لا يحتاج إلى أن يعرِفَ أن ذلك المرجوح ما هو؟ لأن طريقه إلى تعيينه إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وبترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يكون إلّا بالدلائل اللفظية، وهي لا تفي إلّا الظن، والتعويل عليها في المسائل القطعية لا يفيد، لذا كان مذهب السلف عدم الخوض في تعيين التأويل في المتشابه، بعد اعتقاد أن ظاهر اللفظ محال، لقيام الأدلة العقلية القطعية على ذلك"1 أ. هـ.
وهذه الأقوال تبدو متقاربة، غير متعارضة، ولكنها في نظري لا تفي بالمطلوب إثباته من الخصائص الجامعة لمسائل كلٍّ من المحكَم والمتشابِه، وهو الأمر الذي يجعل كلًا منهما غير متميِّز عن الآخر أكمل تمييز.
1 انظر مناهل العرفان ج2 ص170، 171.