المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أقسام السبب: قد تتبَّعت أسباب النزول في مظانِّها، فوجدت ما صحَّت - دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل

[محمد بكر إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى علوم القرآن

- ‌المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها

- ‌المبحث الثالث: أسماء القرآن

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي

- ‌المبحث الخامس: تنزلات القرآن

- ‌المبحث السادس: تنجيم القرآن

- ‌المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل بإطلاق:

- ‌آخر ما نزل:

- ‌المبحث الثامن: جهات نزول القرآن

- ‌المبحث التاسع: المكي والمدني

- ‌مدخل

- ‌ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني:

- ‌مقاصد المكي

- ‌فائدة العلم بالمكي والمدني:

- ‌المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها

- ‌معنى الآية

- ‌طريق معرفة الآي:

- ‌سبب الخلاف في عد الآي:

- ‌ترتيب الآي:

- ‌المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها

- ‌تعريف السورة

- ‌حكمة تسوير القرآن:

- ‌تقسيم السور بحسب الطول والقصر:

- ‌أسماء السور:

- ‌ترتيب السور:

- ‌المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه

- ‌المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف

- ‌مدخل

- ‌بعض ما ورد في ذلك:

- ‌الأصول المستفادة من هذه الأحاديث:

- ‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

- ‌المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء

- ‌مدخل

- ‌تعريف القراءات:

- ‌الحكمة من تعدد القراءات:

- ‌نشأة علم القراءات:

- ‌أقسام القراءات باعتبار السند:

- ‌ضوابط قبول القراءات:

- ‌هل التواتر شرط في صحة القراءة:

- ‌المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور

- ‌مدخل

- ‌جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌جَمْعُه في عهد الصديق رضي الله عنه:

- ‌جمعه في عهد عثمان:

- ‌خطة عثمان في نسخ المصاحف:

- ‌عدد ما نُسِخَ من المصاحف:

- ‌مصير مصحف حفصة:

- ‌حكم تحريق المصاحف:

- ‌المبحث السادس عشر: رسم المصحف

- ‌مدخل

- ‌العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي:

- ‌عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه:

- ‌المصحف العثماني والأحرف السبعة:

- ‌موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني:

- ‌موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم

- ‌مدخل

- ‌ تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:

- ‌ حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب:

- ‌ اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:

- ‌ تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات:

- ‌ الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌قواعد رسم المصحف:

- ‌قاعدة الحذف:

- ‌قاعدة الزيادة:

- ‌قاعدة الهمز:

- ‌قاعدة البدل:

- ‌قاعدة الوصل والفصل:

- ‌مزايا الرسم العثماني وفوائده:

- ‌المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها

- ‌مدخل

- ‌دواعي النقط والشكل:

- ‌حكم نقط المصحف وشكله:

- ‌حكم تجزئته وتحسين خطه:

- ‌المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌تعريف سبب النزول:

- ‌طرق معرفة أسباب النزول:

- ‌الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول:

- ‌تعدُّد الروايات في سبب النزول:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌تعدُّد النازل والسبب واحد:

- ‌أقسام السبب:

- ‌العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب

- ‌الرد على السيوطي في هذه المسألة:

- ‌فوائد العلم بأسباب النزول:

- ‌المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه

- ‌مدخل

- ‌معنى الإحكام والتشابه في اللغة:

- ‌معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح:

- ‌الراجح:

- ‌ما يقع فيه التشابه:

- ‌الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام:

- ‌المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات

- ‌مدخل

- ‌آيات الصفات بين التفويض والتأويل:

- ‌التأويل المحمود والتأويل المذموم:

- ‌المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور

- ‌مدخل

- ‌المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص

- ‌تعريف العام والخاص

- ‌صيغ العموم:

- ‌دلالة العام:

- ‌أنواع العام:

- ‌الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد

- ‌تعريف المطلق والمقيد

- ‌حكم حمل المطلق على المقيد:

- ‌المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين

- ‌تعريف المجمل والمبين

- ‌أسباب الإجمال:

- ‌أقسام المجمَل:

- ‌أقسام المبيِّن:

- ‌حكم المجمَل:

- ‌المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي

- ‌تعريفه

- ‌أسباب وجوده في اللغة:

- ‌حكمه:

- ‌المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة

- ‌مدخل

- ‌مفهوم النَّسْخِ في اللغة:

- ‌مفهوم النَّسْخِ في الشرع:

- ‌أدلة جواز النَّسْخِ:

- ‌ما يقع فيه النَّسْخُ:

- ‌أنواع النسخ

- ‌الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه

- ‌الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته

- ‌الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة

- ‌النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل:

- ‌حسم الخلاف:

- ‌النَّسْخُ إلى الأخفِّ والمساوي والأثقل:

- ‌طرق معرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:

- ‌السيوطي وآيات النسخ:

- ‌نسخ القرآن بالسنة:

- ‌نسخ السنة بالقرآن:

- ‌نسخ السنة بالسنة:

- ‌حكمة الله في النسخ:

- ‌المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريف المثل في اللغة:

- ‌تعريفه عند الأدباء:

- ‌تعريفه عند علماء البيان:

- ‌تعريف المثل القرآني:

- ‌أنواع المثل القرآني:

- ‌خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية:

- ‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

- ‌المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم

- ‌المقسم به

- ‌المقسَمُ عليه:

- ‌أدوات القسم:

- ‌مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه:

- ‌وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه

- ‌الفرق بين القسم والحلف:

- ‌المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن

- ‌مدخل

- ‌الخاصة الأولى: جمال التعبير

- ‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

- ‌الخاصة الثالثة: قوة التأثير

- ‌الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام:

- ‌المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريفه:

- ‌عناية العلماء به:

- ‌أهم المؤلفات فيه:

- ‌وجوه الإعجاز

- ‌الوجه الأول: لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: بلاغته

- ‌الوجه الرابع: تأثيره في القلوب

- ‌الوجه الخامس: علومه ومعارفه

- ‌الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه

- ‌الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز

- ‌الخلاصة والتحقيق

- ‌مدخل

- ‌القول بالصرفة:

- ‌القدر المعجز منه:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌أقسام السبب: قد تتبَّعت أسباب النزول في مظانِّها، فوجدت ما صحَّت

‌أقسام السبب:

قد تتبَّعت أسباب النزول في مظانِّها، فوجدت ما صحَّت أسانيدها لا تخرج عن ستة أقسام:

الأول: ما يتوقف فَهْمُ الآية على العلم به، كأن يكون المعنى مبهمًا لا يُعْرَف من الألفاظ وحدها، ولا من القرائن المحيطة به، فإذا ذُكِرَ السبب اتضح المراد منه، وهذا القسم مما ينبغي للمفسِّر أن يبحث عنه قبل الخوض في تفسير الآية، حتى لا يضلَّ عن المراد منها.

وذلك مثل السبب الذي نزل فيه لقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .

فقد نزلت في خولة بنت ثعلبة.

روى الحاكم وصحَّحَه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسِعَ سمعُه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذ كبر سني، وانقطع ولدى، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} .

-وهو أوس بن الصامت" أ. هـ1.

ومن هذا القسم أيضًا ما نزل فيه قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

1 انظر الحديث في "لباب النقول" للسيوطي، وقد رواه أحمد في مسنده، ورواه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم، وابن جرير من غير وجه، ورواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا.

2 البقرة: 104.

ص: 163

فقد قال ابن كثير في تفسيره: "نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص -عليهم لعائن الله- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورون بالرعْوَنة، كما قال تعالى:

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 1.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: "أرعنا سمعك، وإنما "راعنا" كقولك: عاطنا.

وقال السدي: "كان رجل من اليهود من بني قينقاع يُدعى رفاعة بن زويد، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلَّمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخَّم بهذا، فكأن ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، غير صاغ، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدَّمَ الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا"2.

ومن هذا القسم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} 4.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 5.

وأضرابها، فإنها من المبهمات التي يعتمد في تعيين مَنْ تُعْنِيهِم هذه الآيات على معرفة أسباب النزول.

الثاني من الأقسام: ما يبين الإجمال ويزيل الإشكال، وهو قريب من القسم الأول، فقد لا يكون المعنى في الآية مبهمًا، ولكن يكون مجملًا، بمعنى: أن المعنى الراجح في الآية غير واضح، فيقع الإشكال في فهم المراد، فإذا عُرِفَ

1 النساء: 46.

2 انظر ج1 ص213، 214.

3 البقرة: 8.

4 الحج: 11.

5 لقمان: 6.

ص: 164

السبب الذي نزلت عليه الآية، ظهر المعنى الراجح، وتلاشى المعنى المرجوح الذي توهمه المخاطب من الإجمال، فارتفع الإشكال، من هذا قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1.

فقد وقع الإجمال في الاسم الموصول "مَنْ"، فإنه لا يُعْرَفُ مَنْ المراد على وجه التحقيق بما وقع في حيزه من شرط وجواب، هل هم اليهود وحدهم بدليل السياق، أم المراد عموم المكلَّفين، فإذا عُلِمَ من سبب النزول أن المراد به اليهود والنصارى، عُلِمَ أن الذين تركوا الحكم بالتوراة والإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وسوابق الآية ولواحقها يدل على ذلك، غير أنه لا يمنع أن تتناول الآية بعمومها جميع المكلَّفين إن تركوا الحكم بما أنزل الله جملة، وأصرُّوا على ذلك، وفعلوا ما فعله اليهود والنصارى من تحريف الكِتَاب، وترك العمل به، بناءً على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الجمهور من المحققين.

ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.

فإنها من قبيل المجْمَل الذي يحتاج بيان المراد منه على وجه التحديد، إذ يتناول لفظ الظلم جميع الذنوب التي يقترفها الإنسان، لهذا أشكل على الصحابة معناها، فأفصح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن مراد الله منها.

قال البخاري: حدَّثَنَا محمد بن بشَّار، حدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله "يعني: ابن مسعود" قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} .

قال أصحابه: وأيُّنَا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

1 المائدة: 44.

2 الأنعام: 82.

ص: 165

القسم الثالث: ما لا يبين مجملًا ولا يؤول متشابهًا، ولكن يبين تناسب الآيات، وارتباط بعضها ببعض، والكشف عن وجه تعلُّق الشرط بالجزاء مثلًا، أو الصفة بالموصوف، كما في قوله تعالى من سورة النساء:

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1.

فإن لفظ اليتامى يشمل جمع الذكور والإناث، ولا يتبيَّن ارتباط الشرط بالجواب مع هذا السياق إلّا على وجهٍ من الوجوه المحتملة، لخفاء الملازمة بينهما، فبينها ما ورد في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، فقد سألها عروة ابن الزبير عنها فقالت:"هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فنُهُوا أن ينكحوهن إلّا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن".

فهذه الآية نزلت بسبب ما كان يقع من أولياء اليتامى في الجاهلية من ظلمٍ لليتيمات، علمت به عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر؛ لأن قول الصحابي له حكم المرفوع، وهي رضي الله عنها لا تفتي إلَّا بما علمت، ويحتمل أن تكون قد عرفت ذلك بالمشاهدة، كما دلَّ عليه ما رواه البخاري في صحيحه قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه:

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} .

أحسبه قال: أنت شريكته في ذلك العذق وفي ماله".

وفي صحيح البخاري أيضًا، قال عروة: قالت عائشة: "وإنَّ الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} .

قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى:

1 آية 3.

ص: 166

{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} .

رغبة أحدكم عن يتيمة حني تكون قليلة المال والجمال، فنُهُوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلّا بالقسط، ومن أجل رغبتهم عنهن؛ إذ كنَّ قليلات المال والجمال".

القسم الرابع: حوادث قامت عليها تشريعات وأحكام، ولكنها لا تبين مجملًا، ولا ترفع إبهامًا، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها.

أي: إن سبب النزول وهو الحادثة التي وقعت، لو جهِلَها المفسِّر لا يضرُّه عدم العلم بها، وإذا نظر إلى الآيات النازلة فيها وقع في خلده أنها نزلت على غير سبب، فإذا ما نزل إلى السبب وجده موافقًا لما تدل عليه الآية فيزداد بمعرفته فهمًا لها.

مثل حادثة عويمر العجلاني الذي نزلت بسببه آيات اللعان.

فإنه من نظر إلى آيات اللعان دون أن يلاحظ السبب الذي نزلت عليه لا يخطئ في فهم المراد منها؛ لأن فهمها لا يتوقَّف على سبب نزولها، وهي تشريع عام لا يقتصِر على عويمر وحده.

ومثل حادثة كعب بن عجرة التي نزلت بسببها آية:

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} 1.

فقد روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن معقل قال: "قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد -يعني: مسجد الكوفة- فسألته عن "فدية الصيام" فقال: حُمِلْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكلِّ مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة".

القسم الخامس: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد، فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها، وزجر من يرتكبها.

1 البقرة: 196.

ص: 167

فكثيرًا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون: نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة، فكأنهم يريدون التمثيل.

ففي كتاب الإيمان من صحيح البخاري في باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1.

أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "مَنْ حَلَفَ على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".

فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية.

فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا، قال: فيَّ أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي.... إلخ.

فابن مسعود جعل الآية عامة؛ لأنه جعلها تصديقًا لحديث عام، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال:"فيَّ أنزلت" بصيغة الحصر.

ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتَتَحَة بقوله تعالى "ومنهم - ومنهم"، ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة.

ومثل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 2.

فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين.

وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين، ولا فائدة في ذكره، على أنه ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.

القسم السادس: حوادث حدثت، وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة، فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهِمُ أن تلك الحوادث هي المقصودة

1 آل عمران: 77.

2 البقرة: 105.

ص: 168

من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية، ويدلّ لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول.

وأمثلته كثيرة؛ ذكر منها السيوطي في الإتقان جملة في المسألة الخامسة من أسباب النزول.

منها: ما رواه البخاري أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} 1، بألف بعد لام السلام، وقال: كان رجل في غنيمة له "تصغير غنم" فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه "أي: ظنُّوه مشركًا يريد أن يتقي منهم السلام"، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} الآية.

فالقصة لا بُدَّ أن تكون قد وقعت؛ لأن ابن عباس رواها، لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها، بل نزلت في أحكام الجهاد، بدليل ما قبلها وما بعدها، فإن قبلها:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} .

وبعدها: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} .

ومنها ما جاء في صحيح البخاري من نزاع الزبير والأنصاري في شراج الحرة، وقد تقدَّمَ ذكره، ففيه قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلّا نزلت في ذلك:

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 2 الآية.

نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي أنه قد عَرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمَّن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها.

وقد سبق تفصيل ذلك في صيغة أسباب النزول.

1 النساء: 94.

2 النساء: 65.

ص: 169