الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهم المؤلفات فيه:
لما كثر الكلام في قضية الإعجاز القرآني في مجالس العلم، نهض جمعٌ من العلماء بتدوين ما كان يقال في كتب ورسائل خاصة بين أهل العلم، فكان بعضها على سنن الهدى، وبعضها على غير ذلك.
دفعهم إلى تصنيف هذه الكتب والرسائل -كما يذكر الرافعي- "انتشار مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة، وخوفهم من أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة، وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة، ولا سليقة لهم في الفصاحة، ولا عرق لهم في البيان، مسَّت الحاجة إلى بسط القول في فنونٍ من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه.
قال رحمه الله: فصنَّف أديبنا الجاحظ المتوفَّى سنة "255" كتابه "نظم القرآن"، وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أوَّل كتاب أُفْرِد لبعض القول في الإعجاز، أو فيما يهيئ القول به.
وقد غضَّ منه الباقلاني بقوله: إنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عمَّا يلتبس في أكثر هذا المعنى "أي: الإبانة عن وجه المعجزة".
وذهب الباقلاني رحمه الله أن ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث غير الذي دعاه هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول الجاحظ أكثر من توكيد القول في الفصاحة، والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي ابتدأ التأليف فيه، ولم تكن علوم البلاغة قد وضِعَت بعد.
بيد أن أول وضعٍ لشرح الإعجاز، وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنما هو فيما نعلم كتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي، المتوفَّى سنة "306"، وهو كتاب شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحًا كبيرًا سماه: المعتضد، وشرحًا آخر أصغر منه.
ولا نظن الواسطي بنى إلّا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" على الواسطي.
ثم وضع أبو عيسى الرماني، المتوفَّى سنة "382"، كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة.
وجاء القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفَّى سنة "403"، فوضع كتابه المشهور "إعجاز القرآن"، الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على
حدة، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي، ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتداء بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ.
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذَّبه وصفاه، وتصنَّع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأليف لم يرضه مَنْ سواه، وخرج كتابه كما قال في كتاب الجاحظ:"لم يكشف عَمَّا يلتبس في أكثر هذا المعنى".
فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشد إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنشر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدَّها في محاسنه وهي من عيوبه.
وكان الباقلاني رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ، ومذهب مقلده ابن العميد على بصر وتمكُّن، وحسن تصرُّف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضِعَ له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة إلى النقل، إذ كان أكبر غرضه في هذا الكتاب أن ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة، وهذه ثلاثة لو بسط لها كل علوم البلاغة، وفنون الأدب لوسعتها، وهي مع ذلك حشو ووصل.
على أن كتابه قد استبدَّ بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد، ووفى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عَدُّوه الكتاب وحده، لا يشرك العلماء معه كتابًا آخر في خطره ومنزلته وبُعْدِ غوره، وإحكام ترتيبه، وقوة حجته، وبسط عبارته، وتوثيق سرده، فأنظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه.
وما زاد الباقلاني رحمه الله على أن ضمَّن كتابه روح عصره، وعلى أن جعله في هذا الباب، كالمستحث للخواطر الوانية، والهمم المتثاقلة في أهل التحصيل والاستيعاب الذين لم يذهبوا عن معرفة الأدب، ولم يغفلوا عن وجه اللسان، ولم ينقطعوا دون محاسن الكلام وعيوبه، ولم يضلوا في مذاهبه وفنونه، حتى قال: إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها، وقد كانت علوم البلاغة لم تهذَّب لعهده، ولم يبلغ منها الاستنباط العلمي، ولم تجرَّد فيها الأمهات والأصول، ككتب عبد القاهر ومن جاء بعده، فبسط الرجل من ذلك شيئًا، وأجمل شيئًا، وهذَّب شيئًا، ونحا في الانتقاد منحى الذين سبقوه من العلماء بالشعر وأهل الموازنة بين الشعراء، وكانت تلك العصور بهم حفيلة.
وبالجملة فقد وضِعَ ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصره، بيد أن القرآن كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز.
وممن ألَّفوا في الإعجاز أيضًا على وجوه مختلفة من البلاغة، والكلام، وما إليها: الإمام الخطابي المتوفي سنة "388"، وفخر الدين الرازي المتوفَّى سنة "606"، والأديب البليغ ابن أبي الإصبع المتوفَّى سنة "654"، والزملكاني المتوفَّى سنة "727"، وهي كتب بعضها من بعض" أ. هـ1.
وتتابع الغيث من بعد هؤلاء، فأُلِّفَت في الإعجاز البياني والتشريعي والعلمي كتب كثيرة، ورسائل جامعية، جاء فيها مؤلفوها بجديد في هذه المناحي الثلاثة.
وسيظل كتاب الله منهلًا عذبًا يرتوي منه كل باحث متدبر.
1 بتصرف يسير من كتاب "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" ص151، 154.