الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا المفهوم أخذ بالمعنى المشترك للفظ النَّسْخِ في اللغة.
هذا هو مفهوم النَّسْخِ عند المتقدمين، أما مفهومه عند المتأخرين فهو مفهوم ضيق مقصور على الرفع والإزالة.
فقد عرَّفوا النَّسْخَ بأنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخِّرٍ عنه.
فهذا التعريف قد أخرج تخصيص العام وتقييد المطلق بالاستثناء، أو بالصفة، أو بالحال، أو بالزمان، أو بالمكان، وغير ذلك من أنواع التخصيص والتقييد.
ومن هنا نعلم أن الصحابة والتابعين قد عدُّوا في المنسوخ آيات كثيرة بحسب مفهومهم الواسع لمعنى النَّسْخِ.
وأما المحدَثون فقد اقتضاهم التوسُّع في البحوث العلمية إلى التقسيمات والتفريعات؛ فأخرجوا من مفهوم النَّسْخِ بعض ما كان يشمله اللفظ.
وما فعلوه لا يدل على أنهم خالفوا الصحابة والتابعين، أو خرجوا عَمَّا قرروه في أمر الناسخ والمنسوخ؛ فللباحث أن يقسِّمَ بحثه إلى قضايا ومسائل حسبما شاء، بشرط أن لا يخرج عن المفهوم العام للموضوع الذي يبحث فيه.
وهذا الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين والذي اقتضاه التطور العلمي لن يغيِّرَ شيئًا من الأحكام الشرعية التي قرَّرَها الصحابة والتابعون، ونقلوها إلينا بدقة وأمانة، ما دمنا نعرف الحقائق التي كانوا يطلقون عليها اسم النَّسْخِ، ونستطيع أن نتبيَّن ما يُسَمَّى من بينها نسخًا في اصطلاحنا، وما خصَّه اصطلاحنا المتأخِّر عن زمانهم باسم آخر.
فالخلاف إذًا بين المتقدمين من الصحابة والمتأخرين من الأصوليين اصطلاحي.
أدلة جواز النَّسْخِ:
استدلَّ جمهور العلماء على جواز النَّسْخِ بالعقل والنقل والتاريخ.
أما العقل: فلا يمنع جوازه؛ لأنه لا يترتَّب على وقوعه محال.
والواقع التاريخي -أيضًا- يؤكد وقوع النَّسْخِ بنوعيه: نسخ الشرائع
السابقة بالإسلام، ونسخ الحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر متأخِّرٍ عنه، والوقوع خير شاهد على الجواز.
وقد اعتمد المجوّزون له على ثلاث آيات من القرآن الكريم:
الأولى: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.
الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 2.
الثالثة: قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 3.
فإذا قرأت أكثر كُتُبِ المفسّرين وجدتهم يحملون النَّسْخَ في آيتي البقرة والنحل على نسخ الحكم، ووجدت بعضهم يحمله على نسخ الحكم والتلاوة، فيقسِّمون النَّسْخَ بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام هي: نسخ الحكم فقط، ونسخ الحكم والتلاوة معًا، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وسيأتي لهذا التقسيم وغيره تفصيل وتمثيل.
أما آية الرعد، فقد حملها أكثرهم على نسخ الشرائع، فكل شريعة تنسخ الأخرى، وشريعتنا ناسخة لجميعها، بمعنى أنها نسخت كثيرًا من الأحكام الجزئية التي لا تتفق مع مصالحنا الدنيوية والأخروية.
فالشريعة السماوية لا تنسخ الأصول العامة ولا القواعد الكلية؛ لأنها متفقة عليها، لا تختلف فيها شريعة عن أخرى، على ما سيأتي بيانه.
على أن المحوَ والإثبات في الآية يتناول كل ما من شأنه أن يُمْحَى، وكل ما
1 البقرة: 106.
2 النحل: 101.
3 الرعد: 39.