الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها
1-
كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه، ما عرف العلماء، وفوق ما عرف العلماء من بعد.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعلم من القرآن ظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وعامَّه وخاصَّه، ومطلقه ومقيده، وغير ذلك من الأمور الجلية والخفية، التي اشتملها هذا الكتاب العظيم.
فقد كتب الله على نفسه الرحمة ليجمعنَّه له في صدره، وليطلق لسانه بقراءته وترتيله، وليميطنَّ اللثام عن معانيه وأسراره.
قال جل شأنه في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1.
وأما أصحابه، فقد نهلوا من معينه، فعلموا منه بقدر طاقتهم ما أعانهم على فهم ما يتعلق بشئون دينهم ودنياهم، وعرفوا من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم مراد الله تعالى من كلامه المنَزَّل، أعان بعضهم بعضًا على ذلك، بعد أن لقي الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، فكان منهم يسأل الآخر عَمَّا غمض عليه فهمه، أو جهل حكمه.
وكان منهم من دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والفقه؛ كابن عباس رضي الله عنهما، والخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم.
وكان الصحابة عربًا خُلَّصًا، متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة، وذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير
1 آية: 16-19.
للأساليب، ووزن لما يسمعون بأدق المعايير، حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم، وصفاء فطرتهم، ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع زحمة العلوم، وكثرة الفنون.
وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- مع هذه الخصائص أمِّيين، وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم، والرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يكتبوا عنه شيئًا غير القرآن، وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدِّثُوا عني فلا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره، أو يختلط بالقرآن ما ليس منه.
فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن، كما لم يكتب الحديث الشريف، ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر.
ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه، والقرآن وعلومه، والسنة وتحريرها تتلقينًا لا تدوينًا، ومشافهة لا كتابة" أ. هـ1.
2-
ولما اتسعت رقعة الإسلام في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية، خاف بعض المسلمين على القرآن أن يختلف المسملون في قراءته إن لم يجتمعوا على مصحف واحد، فأشاروا على عثمان بكتابة القرآن الكريم في مصحف واحد، وتنسخ منه عدة مصاحف يُبْعَثُ بها إلى أقطار الإسلام، وأن يحرق الناس ما عداها، على ما سيأتي بيانه مفصَّلًا عند الكلام على جمع القرآن.
فاستجاب رضي الله عنه لهذه النصيحة الغالية؛ فجمع المسلمين على مصحف واحد عُرِفَ بمصحف الإمام، وبهذا العمل وضع عثمان رضي الله عنه الأساس لما نسميه علم رسم القرآن، أو علم الرسم العثماني.
1 انتهى بتصرف يسير من مناهل العرفان ج1 ص22، 23.
ثم جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلاحظ أن العُجْمَة تكاد تحفيف على اللغة العربية، وسمع بعض الناس يلحنون في اللسان العربي، فأمر أبا الأسود الدؤليّ أن يضع بعض القواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل، ووضع له المنهج، وقال له: انح للناس على هذا النحو.
وبذلك يكون رضي الله عنه أول مَنْ وضع علم النحو، وتبعه فيما بعد علم إعراب القرآن، وهو علم يعين المفسِّر على فهم كتاب الله تعالى كما هو معلوم، والإعراب فرع المعنى كما يقولون.
ومضى المسلمون بعد الخلافة الرشيدة في نشر علوم القرآن، بالمشافهة والتلقين، حتى جاء عهد التدوين بعد المائة الأولى من الهجرة، فأُلِّفَت كتب في أنواع شتَّى من علوم القرآن، واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير بوصفه رأس العلوم وعمدتها، لما فيه من التعرُّضِ لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز.
ومن أوائل الكاتبين في التفسير: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، وهم من علماء القرن الثاني.
ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفَّى سنة 310هـ، وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، لأنه أوَّل من عرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، كما عرض للإعراب والاستنباط.
وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا. أما علوم القرآن الأخرى، ففي مقدمة المؤلفين فيها: على بن المديني شيخ البخاري، إذ ألَّفَ في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام، إذ كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث.
وفي مقدمة من ألَّفَ في غريب القرآن: أبو بكر السجستاني، وهو من علماء القرن الرابع.
وفي طليعة من صنَّف في إعراب القرآن: علي بن سعيد الحوفي، وهو من علماء القرن الخامس.
ومن أوائل من كتب في مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي، وهو من علماء القرن السادس.
كذلك تصدَّر للتأليف في مجاز القرآن: العز بن عبد السلام، وفي القراءات: عَلَمُ الدين السخاوي، وهما من علماء القرن السابع.
وهكذا قويت العزائم، وتبارت الهمم، ونشأت علوم جديدة للقرآن، وظهرت مؤلفات في كل نوع منها، لهذا اشرأَبَّت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علمًا جديدًا يكون كالفهرس لها، والدليل عليها والمتحدِّث عنها، فكان هذا العلم هو ما نسميه "علوم القرآن" بالمعنى المدوَّن.
قال الزرقاني: "ولا نعلم أن أحدًا قبل المائة الرابعة للهجرة ألَّفَ أو حاول أن يؤلِّفَ في علوم القرآن بالمعنى المدوَّن؛ لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف، وإن كنَّا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء، على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم.
ولقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أوَّل عهد ظهر فيه هذا الإصطلاح، أي اصطلاح علوم القرآن، وهو القرن السابع.
لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتابٍ لعلي بن إبراهيم بن سعيد، الشهير بالحوفي، المتوفَّى سنة 330هـ، اسمه "البرهان في علوم القرآن"، وهو يقع في ثلاثين مجلدًا، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدًا غير مرتبة، ولا متعاقبة، من نسخة مخطوطة.
وإذن نستطيع أن نتقدّم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان، أي: إلى بداية القرن الخامس بدلًا من القرن السابع.
ثم جاء القرن السادس فألَّفَ فيه ابن الجوزي، المتوفَّى سنة 597هـ كتابين: أحدهما اسمه "فنون الأفنان في علوم القرآن"، والثاني اسمه:"المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن"، وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية.
وفي القرن السابع ألَّفَ علم الدين السخاوي المتوفَّى سنة 641هـ كتابًا سماه: "جمال القرَّاء".
وألَّفَ أبو شامة المتوفى سنة 665هـ كتابًا أسماه: "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز"، وهما -كما قال السيوطي- عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ قصيرة، بالنسبة للمؤلفات التي أُلِّفَتْ بعد ذلك في هذا النوع.
ثم أهلَّ القرن الثامن، فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794هـ كتابًا سماه:"البرهان في علوم القرآن"، ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة، فدرج فيه وترعرع، إذا ألَّف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة 873هـ كتابًا يقول السيوطي عنه: إنه لم يسبق إليه.
وفي هذا القرن أيضًا وضع جلال الدين البلقيني كتابًا سماه: "مواقع العلوم من مواقع النجوم".
وفي هذا القرن التاسع أيضًا ألَّف السيوطي كتابًا سماه: "التحبير في علوم التفسير"، ضمَّنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، وأضاف إليه فوائد سمحت قريحته بنقلها، وقد أوفى هذا الكتاب على الاثنين بعد المائة من الأنواع، وفرغ الإمام من تأليف تحبيره هذا سنة 872هـ، غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا المجهود العظيم، بل طمح إلى التبحُّر والتوسُّع والترتيب، فوضع كتابه الثاني "كتاب الإتقان في علوم القرآن"، وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن، ذكر فيه ثمانين نوعًا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج"1.
ثم فترت الهمم بعد السيوطي المتوفى سنة 911هـ، لكنها لم تلبث حتى انبعثت مرة أخرى تجدد لهذه العلوم ثوبها، وتضيف إليها من البحوث ما يزيل شبه المستشرقين، ومن لف لفهم حول بعض ما جاء في كتب الأقدمين من روايات، وتَقَّول، وتطفوا على هذه العلوم القرآنية نظريات جديدة دعت إليها
1 انتهى بتصرف من مناهل العرفان ص28، 30.
ضرورة العصر الذي تميَّزَ بظهور كثير من الاكتشافات العلمية في العلوم الطبيعية والفلسفية، وغيرها، فألفت في هذه العلوم القرآنية كتب كثيرة، منها:
1-
"البيان في علوم القرآن" للشيخ طاهر الجزائري، يقع في قريب من ثلاثمائة صفحة، وفرُغَ من تأليفه سنة 1335هـ.
2-
"منهج الفرقان في علوم القرآن" للشيخ محمد علي سلامة.
3-
"النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز.
4-
"مناهل العرفان" للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.
5-
اللآلئ الحسان في علوم القرآن" للدكتور موسى لاشين.
6-
"مباحث في علوم القرآن" للشيخ منَّاع القطان.
هذا وهناك بحوث ورسائل كثيرة كُتِبَت في بحوث مختلفة نُشِرَت في جامعة الأزهر، وجامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وغيرها من جامعات العالم.
ولو جُمِعَ من هذه البحوث والرسائل أنقاها وأزكاها في موسوعة بالغة ما بلغت من الحجم لكان عملًا رائعًا يستحقه الإكبار والتقدير.
إذ يجد الباحث في هذه الموسوعة ما يبتغيه من أيسر طريق، وبأقل جهد.