الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي
يجدُرُ بنا بعد أن ذكرنا لك مفهومه لفظ "قرآن" في اللغة وفي الاصطلاح، أن نبيِّنَ لك الفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي، فنقول:
إن كان المراد بالحديث القدسي ما نَزَلَ لفظه ومعناه من عند الله تعالى، فالفرق بينه وبين القرآن الكريم من وجوه.
الأول: أن القرآن معجزة تحدَّى الله به الإنس والجن، والحديث القدسي ليس كذلك.
الثاني: أن القرآن الكريم متعبَّدٌ بتلاوته، والحديث القدسي ليس كذلك.
الثالث: القرآن متواتِرٌ، نقله الجمع الغفير ممَّن بلغ الغاية في العدالة والضبط عن مثلهم، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث القدسي منه الصحيح ومنه الحسن، ومنه الضعيف.
الرابع: لا تجوز رواية القرآن بالمعنى، بخلاف الحديث القدسي، فإنه يجوز أن يروى بمعناه، بشرط أن يكون الراوي محيطًا بالمعاني، فقيهًا بمباني الألفاظ واشتقاقها.
الخامس: لا يجوز للجنُبِ قراءة القرآن ولا مسَّ المصحف، ويجوز له قراءة الحديث القدسي ومسُّ الكتاب الذي يحتويه.
السادس: أن الله تكفَّلَ بحفظ القرآن، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.
فلا يضيع حرف من حروفه حتى يأتي أمر الله.
بخلاف الحديث القدسي، فإنه قد يبدل لفظ من ألفاظه، أو ينسى بعضه بمرور الزمان، وذهاب الحافظين.
1 الحجر: آية9.
السابع: أنه من أنكر لفظًا من ألفاظ القرآن الكريم كفر؛ لأنه متواتر كله، بخلاف الحديث القدسي، فإنه من أنكر شيئًا منه لم يُعْلَمْ من الدين بالضورة لا يكفر، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
وأما إن قلنا: إن الحديث القدسي هو ما نَزَلَ من عند الله بمعناه دون لفظه، فلا يكون هناك ما يستدعي ذكر هذه الفروق.
وهذا القول هو الأولى بالقبول من سابقه.
قال محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم"1 مرجِّحًا هذا القول: "وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا؛ لأنه لو كان منَّزلًا بلفظه لكان له في الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنَّظْمِ القرآني، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منَزَّلَين من عند الله، فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعًا، وحرمة مسِّ المحدِّث لصحيفته، ولا قائل بذلك كله.
وأيضًا فإن القرآن لما كان مقصودًا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، والحديث القدسي لم ينزل للتحدُّث ولا للتعبُّد، بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه.
فالقول بإنزال لفظه، قول شيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهمَّ إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة "يقول الله تبارك وتعالى كذا".
لكن القرائن التي ذكرناها آنفًا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية، فإنك تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر:"يقول الشاعر كذا"، وتقول حينمًا تفسِّر آية من كتاب الله بكلام من عندك "يقول الله تعالى كذا"، وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون، وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم.
1 ص11.
فإن زعمت أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدَّس وراء المعنى لصحَّ لنا أن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيًّا أيضًا، لوجود هذا المعنى فيه، فجوابه: إننا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورود النصِّ الشرعي عن نسبته إلى الله بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "قال الله تعالى كذا" سميناه قدسيًّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية، فإنها لما لم يرد فيها مثل هذا النص، جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلمًا بالوحي، وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد والرأي، فسمي الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحدِّ المقطوع به، ولو كانت لدينا علامة تمييز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيًّا كذلك".