الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حملها على ما يُذْكَر في كتب الأدب من تشبيه المضرب بالمورد، ولا يشترط أن يكون فيها غرابة أو طرافة، ولكنها صور مختلفة لمعاني تَرِدُ للعبرة والاتعاظ، وتقريب ما يستعصي على العقول فهمه من الأمور الغيبية، كصفة الجنة، وكيفية زوال الدنيا، وغير ذلك، سواء صُرِّحَ فيه بلفظ المثل أم لم يصرَّح به، بأن أرسل إرسالًا، فاتخذه الناس مثلًا يحتجون به، ويعتبرون بما فيه.
فالأمثال القرآنية مقاييس عقلية تخلو من التكلُّف والاعتساف، وقواعد كلية للمبادئ الخلقية الصالحة لكل زمان ومكان.
والمثل القرآني أسلوب بياني يجمع في طيَّاته نماذج حية مستمَدَّة من الواقع المشاهد، لتكون هذه النماذج أقيسه عامة للحقائق المجرَّدة، أو الأعمال المجرَّبة، أو الأمور التي لا تقع تحت الحسِّ والإدراك في الدنيا، والتي يترتَّب عليها أحكام شمولية، ويُبْنَى عليها صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة.
وبهذا الإطلاق العام لمعنى المثل في القرآن الكريم نفهم معنى قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1.
1 آية: 89.
أنواع المثل القرآني:
يرى بعض الباحثين أن الأمثال القرآنية تنقسم من حيث هي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الأمثال المصرَّحة أو القياسية:
وهي التي صُرِّحَ فيها بلفظ المثل أو ما يقوم مقامه.
كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . [البقرة: 17] .
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُون} [الرعد: 35] .
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] .
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} . [النور: 40] .
والثاني: ما يُسَمَّى بالأمثال المرسلة، وهي جمل قد أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه، وكثر التمثيل بها لما فيها من العظة والعبرة والإقناع.
وقد اكتسبت صفة المثلية بعد نزول القرآن الكريم وشيوعها في المسلمين، ولم تكن أمثالًا في وقت نزوله، وهي في جملتها مبادئ خلقية ودينية مركزة، مثل قوله تعالى:
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] .
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] .
{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] .
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَه} [يس: 78] .
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك} [الحج: 10] .
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] .
{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُون} [سبأ: 54] .
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرّ} [ألأنعام: 67] .
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] .
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} [الإسراء: 84] .
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] .
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر: 38] .
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغ} [المائدة: 99] .
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل} [التوبة: 91] .
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان} [الرحمن: 60] .
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة} [البقرة: 249] .
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل} [يونس: 91] .
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] .
{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14] .
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} [الروم: 32] .
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] .
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سبأ: 13] .
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] .
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] .
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} [الصافات: 61] .
{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] .
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] .
الثالث: ما يُسَمَّى بالأمثال الكامنة، وهي أمثال لم تضرب لبيان حال خاصة، ولا لصفة معينة، ولا لتلخيص حادثة وقعت في زمنٍ من الأزمان، ولم يصرَّح فيها بالتمثيل من قريب ولا من بعيد، ولكن يدل في مضمونها على معنى يشبه مثلًا من أمثال العرب المعروفة، أي: أنها أمثال بمعانيها لا بألفاظها، فالتمثيل فيها كامن غير ظاهر، لهذا أسموها بالأمثال الكامنة.
قال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله:"خير الأمور أوساطها"؟
قال: نعم في أربعة مواضع:
قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك} [البقرة: 68] .
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] .
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] .
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: "من جهل شيئًا عاداه"؟
قال: نعم في موضعين: قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] .
وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: "احذر شرَّ من أحسنت إليه"؟
قال: نعم، قوله عز وجل:
{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: "ليس الخبر كالعيان"؟
قال: في قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] .
قلت: فهل تجد: "في الحركات البركات"؟
قال: في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] .
قلت: فهل تجد: "كما تدين تدان"؟
قال: في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} [النساء: 123] .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: "حين تَقْلين تدرين"؟ 1.
قال: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42] .
1 أصل هذا المثل أن رجلًا زنى بامرأة وأعطاها دراهم، فقالت له: أنا أحوج منك إلى التمتُّع، وقد أخذت منك الدارهم -وكان قد سُرِقَ منها مقلاة تقلي فيها السمك ونحوه -فقال لها: حين تقلين تدرين. أي: حين تريدين القلي تعرفين أنني الذي سرقت مقلاتك. انظر سياق هذا المثل في مجمع الأمثال. ج1 ص363.
قلت: فهل تجد فيه: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"؟
قال: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] .
قلت: فهل تجد فيه: "من أعان ظالمًا سُلِّطَ عليه"؟
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] .
قلت: "فهل تجد فيه: "لا تلد الحية إلا حية"؟
قال: في قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] .
قلت: فهل تجد فيه: "للحيطان آذان"؟
قال: في قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُم} [التوبة: 47] .
إلى غير ذلك مما نقله السيوطي في الإتقان1.
وأرى أن النوع الثالث ليس داخلًا في الأمثال على أيِّ صورة من الصور، لخلوه من وجه المشابهة بين المثل والممثل له.
وهو مخالف في حقيقته المثل ومفهومه في اللغة، وما ذكره السيوطي وغيره عن الحسين بن الفضل ضرب من تدريب القريحة على استخراج النظائر القرآنية لبعض ما تمثل به الرعب في عصورهم المختلفة من الأقوال الحكيمة التي أوجزت حادثة من الحوادث، أو دلت على معنى من المعاني المعقولة.
وأما النوع الثاني فهو من قبيل التشبيهات الضمنية التي تؤكد المعاني، وتبرزها إبرازًا يجعلها متميزة في النفس أكمل تمييز، أو هي من قبيل الكنايات التي تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله، فتجري مجرى الحكم.
وهو كثير في القرآن الكريم لا يكاد ينحصر.
1 ج1 ص28، وما بعدها ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب.